كيف إعتقلت القوات الحكومية طالباً بينما تحترق قريته؟
عاد نعيم إلى قريته قردود البدري كما يفعل من وقت لآخر لزيارة أهله. قادماً من العباسية حيث يكمل تعليمه الثانوي في مدرسة الجزيرة، وبقميص فريق الهلال الذي يحمل الرقم ٢١ وبنطلونه البني، استلقى نعيم لأخذ قيلولة بعد مشوار عودة مرهق محاولاً التخلص من أعباء دراسته. عندما أغمض عينيه كان الكابوس كالآتي : صرخات مدوية من بيوت القرية، أعيرة رصاص منطلقة في الجوار، وطقس حار فوق العادة. قفز نعيم من فراشه لاستطلاع الأمر، وما أن خطا خارج بيته حتى رأى بيوت القرية تحترق، ولم يمض الكثير من الوقت قبل أن يلتفت مكتشفاً أن النيران تلتهم بيته أيضاً.
الجيلي آدم الحاج، أحد جنود شرطة الاحتياطي المركزي المعروفين هناك باسم (أبو طيرة). كان يتجول في القرية بفخر مع زملاءه حاملين بنادقهم الكلاشنكوف وهم يضرمون النار في القطاطي (بيوت القش)، وما أن لمح أحدهم نعيم الذي دب فيه الرعب وهو يخرج من بين النيران، أطلق رصاصة دوت قرب ساقه. تكالب عليه الجنود – من بينهم الجيلي – وقيدوه بالحبال، وفي مؤخرة سيارة عسكرية “تاتشر” ألقوا به وهم يوجهون إليه وابلاً من الأسئلة والاتهامات.
ألقى جنود (أبو طيرة) القبض على ثلاثة آخرين من سكان قردود البدري، وقد كانت التهمة الوحيدة التي يوجهها الجنود للمعتقلين هو تعاونهم مع الحركة الشعبية لتحرير السودان – قطاع الشمال، وهي التهمة التي قد تدفع صاحبها للموت على أيدي الجنود النظاميين، فعندما أحاط الجنود بنعيم وهو مقيد فوق العربة وهم يواجهونه بهذه التهمة تبول على نفسه فوراً. مما دفع الجنود للاستهزاء به والتقليل من رجولته. اعتقد نعيم ابن الثمانية عشر عاماً أن بطاقته المدرسية قد توفر له دليل براءة. لكن جدلاً احتدم بين الجنود. أصر أحدهم بالتريث في قتله لأخذ المعلومات منه أولاً. في حين اقترح آخر قتله مباشرة لأنه “لا شيء”. ما استطاع فعله خلال استجوابه الفوري هو الإشارة إلى أماكن تواجد الماشية تحت تأثير الرعب، وعندما تأكد الجنود من أن النيران التهمت سائر البيوت، غادروا القرية برفقتهم المعتقلين الأربعة.
بعد فوز الحركة الشعبية لتحرير السودان بانتخابات جنوب السودان وتصويت الجنوبيين بأغلبية ساحقة للاستقلال عن السودان في استفتاء شعبي، خسر الجناح الشمالي للحركة انتخابات ولاية جنوب كردفان. التي تتبع إدارياً للشمال. في حين تميل أغلب قبائلها – غير العربية – عرقياً لقبائل جنوب السودان. لم تتضمن اتفاقية السلام بين الحركة الشعبية والحكومة المركزية مناطق جنوب كردفان والنيل الأزرق. على الرغم من انخراط أبناء تلك المناطق في القتال مع الحركة الشعبية منذ اندلاع الحرب الأهلية في النصف الثاني من القرن العشرين، وامتلاكهم لنفس الدوافع التي جعلت الجنوبيين يحملون السلاح ضد حكومات الخرطوم المتلاحقة، وعندما انطلق الناخبون للتصويت في انتخابات ولاية جنوب كردفان منتصف ٢٠١١ اتهمت الحركة الشعبية لتحرير السودان – قطاع الشمال، حزب المؤتمر الوطني الحاكم في الخرطوم بتزوير نتائج الانتخابات، ومنذ إعلان النتيجة، وانقلاب حزب المؤتمر الوطني ممثلاً في القوات المسلحة على والي ولاية النيل الأزرق المنتخب، والتابع لقطاع الشمال أيضاً، اشتعل القتال في تلك المنطقة الحدودية لما يقارب العامين حتى الآن دون توقف، فظلت القرى الواقعة على الخطوط الأماميّة من جبهات القتال مثل قرية قردود البدري الضحيّة الأكبر لاستمرار الصراع. خصوصاً مع اتهام الحكومة لسكان تلك المناطق بمناصرتهم للحركة الشعبية. مما يعرضهم لحملات انتقامية من جنود الحكومة، وقطاعاتها المسلحة الأخرى.
اختفى نعيم وسط قلق أُسرته المتصاعد لما يزيد عن الأسبوع. في حين كان يتعرض يومياً للتحقيق والضرب المبرح كما قال لاحقاً في افادته لـ(عاين). مما دفعه للاعتراف بالتهم الموجهة إليه تفادياً للتعذيب، وبعد عدة أيام من البحث والاستقصاء تمكن والده محمد من خلال معارفه الوصول إلى أن ولده نعيم معتقل في سجن العباسية. يقول محمد الذي التقت به (عاين) أيضاً : “قضينا أياماً عديدة بحثاً عنه، بلا طعام ولا شراب، ولا نوم كافي. كلنا كنا نبحث عنه”.
واجه محمد تعنُّتا من ضباط الأمن في سجن العبّاسية، ووفقاً لروايته، فإن أحد الضباط أقسم له قائلاً “لن تأخذ ابنك إلا جثة هامدة”. كان مبرر الضباط للاحتفاظ بنعيم في زنزانته هو أنه قام بزرع لغم على الطريق ٣٠ المؤدي إلى تلودي لحساب الحركة الشعبية – شمال. في حين ادعى جندي آخر في إفادة متضاربة أنهم شاهدوه يزرع لغماً قرب قرية كورشا، وبعد الكثير من المماطلات البيروقراطية والرشاوي التي بلغت – وفقاً لمحمد – ما يعادل ١٥٠ دولاراً أمريكياً، وهو ما يفوق قدرة أسرة نعيم. وافقت شرطة الإحتياطي المركزي على إطلاق سراحه بضمانة فريد، أحد قادة قوات الدفاع الشعبي (التابعة للحكومة) بسوق الجبل، كضامن لبراءة نعيم الذي أطلق سراحه بعدها فوراً. في حين لا يعرف مصير المعتقلين الآخرين.
حادثة قردود البدري واحدة من عدة عمليات تتهم فيها القوات الحكومية بإحراق القرى كاستراتيجية عسكرية ممنهجة. سكان القُرى الأخرى شهدوا بأعينهم القوات الحكومية وهي تقوم بحرق بيوتهم : أنق، لو، بورام، تيس، أبوحسن، سارافي، جميزة، ديلّامي، مجلم، الأحمر، تلودي، هي بعض القرى التي تعرضت للحرق وتهجير سكانها مؤخراً، ولكن نادراً ما تتوفر أدلة تثبت تورط الجيش السوداني والأذرع العسكرية الأخرى للحكومة في مثل هذه الأعمال، ويبقى رماد البيوت المحروقة والخالية من سكانها مؤشراً كافياً لاستمرار النزاع المسلح بين الحركة الشعبية – شمال والقوات الحكومية، والذي يعد ضحيته الأولى المواطنون العزل لتلك المناطق.
خلال إحدى المعارك التي خاضتها الحركة الشعبية-شمال مع الجيش السوداني قبل أشهر. وجد هاتف محمول في جيب أحد جنود قوات الدفاع الشعبي. بعد تلك المعركة. توفرت بضع مقاطع مصورة تظهر جنوداً في القوات الحكومية وهم يضرمون النار في قرى أم برتمبو، قردود البدري، وغيرها. من خلال أحد المقاطع، استطاعت (عاين) التعرف على نعيم الذي كان قد أطلق سراحه حينها، وعندما التقت بأسرته التي نزحت من القرية بعد الهجوم. استطاع البعض التعرف على جنود في قوات (أبو طيرة) من بينهم الجيلي آدم الحاج، وغيره، وهم يضرمون النار في القرية بوصف ذلك عملاً وطنياً ضد حركات التمرد، وخلال الشريط، يمكن رؤية الجنود وهم يلقون القبض على نعيم ويحققون معه في حين لا يبدو على وجهه سوى تعبيرات الخوف من الموت، وسط وابل من التهديدات التي يطلقها الجنود من حوله بقتله، وبينما تحترق قرية قردود البدري في الفيديو، يمكن سماع صوت أحد الجنود وهو يصور الشريط بهاتفه قائلاً “هذه الجمرة نرمي بها نار الفتنة في جنوب كردفان.. الله أكبر”. في رمزية غير مقصودة – ربما – بأن السياسة المفضلة للحكومة السودانية هي إطفاء النار بالنار.
نشر في: ١٦ أكتوبر ٢٠١٢