كوارث الخريف: فساد وضعف البنية التحتية
تكرار كوارث الامطار في ولاية الخرطوم وغيرها من ولايات السودان أدى إلى ازدياد رقعة المتضررين والضحايا، وفتح الباب أمام أهمية المسائلة بفتحِ تحقيقات حكومية وإعلامية مجتمعية حول أسباب تكرارها سنويا بدرجات متفاوتة رغم الموعد المعلوم لحلول فصل الخريف من كل عام، وحديث السلطات السنوي المتكرر عن تجهيزات الخريف، وتشكيل لجان وغرف عمليات حكومية.
وفيما يتعامل الكثير من السودانيين مع كوارث الخريف، باعتبارها جزءاً من أقدار الطبيعة ومشيئته التي لا ترد، يرى مختصون أن سوء التخطيط والاهمال يشكلان أسباب أساسية لتكرار تلك الظاهرة المدمرة. فيما يُعزي آخرون كوارث الخريف لضعف وربما غياب البنى التحتية، مجاري – طرق – كهرباء – مياه في معظم مدن السودان، إضافة لعدم وجود نظم مهنية عملية صارمة للرقابة البيئية والعمرانية والصحية.
ويذهب البعض إلى وجود خلل مستمر وفساد أودى بعملية ترتيب الأولويات، المرتبطة بسلامة ومصالح المواطنين لدى متخذي القرارات ومنفذيها في كافة أجهزة الدولة، من أعلاها إلى موظفي المحليات. ويصف مختصون الرقابة على تشييد المباني والمنازل والمؤسسات في السودان بالضعيفة كما يرمونها بالفساد الذي يؤدي إلى سقوط المنازل على رؤوس المواطنين دون فتح تحقيقات أو محاسبة للمسئولين عن تلك الاجهزة الرقابية الهامة.
تكرار وسوء تخطيط
رغم انخفاض نسبة هطول الأمطار منذ 2013، إلا أن ضعف البنية التحتية ساهم فى ارتفاع نسبة الخسائر بشكل ملحوظ خصوصا المنازل والممتلكات العامة، إضافة لسقوط عدد كبير من الضحايا. وفي خريف هذا العام هطلت أمطار اعادت للاذهان ذاكرة خريف 1988 التي أغرقت مياهه معظم الأراضي السودانية. وفي حديث للمواطن تاج السر عبدالله مقارنا بين خريفي 2018 و1988 قائلا لـ( عاين) ان أمطار هذا العام ليست بحجم الأضرار التي وقعت في 1988، موضحاً أن معدل أمطار 88 فاق التحوطات الموضوعة من قبل الجهات المعنية آنذاك، وتعامل معه الناس باعتباره أمر خارج عن السيطرة وأضاف “خريف السنة والسنوات الماضية، لم يتجاوز عدد مرات هطول امطارها أصابع اليد، ولكن مع بداية كل فصل نشاهد الفيضانات التي لم تسلم منها حتى المقابر“.
وارجع تاج السر أسباب الفيضانات الى سوء التخطيط واستغلال المساحات التي كانت تستخدم كمعبر للمياه، اضافة الى المباني فوق ممرات المياه . قبل أن يضيف “ملاحظين ان في كل خريف الناس بتكسر الزلط، لانه ببساطة الزلط يُسفلت أعلى من المنازل، وبقفل مجاري المياه، ودي ما دايره مهندس ودراسة جامعات معروف الشوارع يا اما توضع فيها مجاري جانبية ولا تحت الشوارع عشان الموية دي تمر“.
أضرار جسيمة
باتت كوارث سقوط الضحايا والمنازل والمرافق العامة سمة ملازمة للأوضاع في كافة ولايات السودان. لا سيما ولاية الخرطوم، إذ يشهد السودان سنويا خلال فصل الخريف سقوط أعداد كبيرة من الضحايا البشرية، ووقوع خسائر مادية ضخمة في المنازل والزراعة.
وشهد خريف العام 2010 وفاة 74 شخصا في ولاية الخرطوم، بينما أدي خريف العام 2012 الى مصرع 36 شخصا آخرين. ولم تتوقف كوارث الخريف في السودان بل ظلت في حالة زدياد منذ ذلك الحين، إلا أن العام 2013 شهد أكبر سقوط لحُكومة ولاية الخرطوم في امتحانات الخريف. إذ شهد ذلك العام سقوط 56 من الوفيات وانهيار أكثر من 26 ألف منزل تضرر منها أكثر من ربع مليون نسمة من سكان الولاية المنكوبة. وشهد ذات العام بروز عدد من المبادرات الشعبية أبرزها مبادرة نفير التي قام عليها عدد من المنظمات والمبادرات الشعبية وقامت بتقديم الخدمات الاسعافية لالاف الاسر الفقيرة والمنكوبة خلال فصل الخريف الدامي في ظل غياب واضح لسلطات ولاية الخرطوم. ورغم الخسائر الفادحة إلا أن معضلة الخريف ما تزال ماثلة تجسد الفشل الحكومي في السودان، وفي قلب عاصمته الخرطوم سقط 37 شخصا قتلي في العام 2014 ، وتقلص العدد إلى حوالي عشرة وفيات في العام 2015 نسبة لانخفاض معدلات هبوط الأمطار. بينما شهد العام 2016 وفاة أكثر من سبعين شخصا جراء الأمطار والفيضانات، بينما سجل العام 2017 مصرع ما لا يقل عن 17 شخصا.
2018 عام الفواجع
خريف 2018 ليس أفضل من الأعوام السابقة من حيث سقوط أعداد القتلى والجرحى وانهيار المنازل على رؤوس سكانها. وتقول بعض الإحصائيات ان ما يقارب العشرين شخصا قد لقوا حتفهم تحت أنقاض المنازل بينما سقط ما يقارب الستة آلاف منزل في ولاية الخرطوم فقط.
وشهدت معظم ولايات السودان هطول أمطار غزيرة، وزيادة عالية في مناسيب النيل مما ادى الى اغلاق المدارس لمدة أسبوع في ولاية الخرطوم، بعد وقوع ضحايا نتيجة تهدم المنازل، و اصابة تلاميذ صغار السن بحالات غرق جراء المياه المندفعة بأرجاء العاصمة. وشهد مطلع أغسطس الماضي أحدي أبرز فواجع خريف هذا العام، عندما توفيت ثلاثة تلميذات وجُرح ثمانية أخريات بمنطقة أمبدة بامدرمان تحت ركام سور أحدي الفصول المتهدم.
ورصدت شبكة عاين انهيار منازل بكل من احياء العباسية، أم بدة الردمية ، الثورة ال42 بامدرمان. بينما شهدت أحياء الحلفايا، الدروشاب، السامراب، ببحري انهيار بعض المنازل فاق الـ33 منزل. وفى وقت سابق من هذا الشهر كتبت الناشطة مي شطة على صفحتها بالفيس بوك، عن انهيار منزلهم بحي العباسية الامدرماني العريق بسبب الأمطار. وقالت شطة لـ(عاين) “بيتنا هو البيت رقم 7 في تعداد الانهيار بمنطقة العباسية امدرمان، والانهيار بسبب انخفاض المنازل المقابلة للشارع“، موضحة أن منطقة العباسية تواجه بعض المشكلات بسبب المصارف، الأمر الذي يتسبب في تكدس المياه بصورة متكررة. وأشارت شطة أنه جرت العادة على إقامة ردميات من قبل شباب الحي، لكنها جعلت الطرقات الداخلية اعلى من المنازل، كما أن الطرقات الرئيسية أعلى ارتفاعا من الشوارع الداخلية، مخلفة بذلك نسبة عالية من المياه الراكدة داخل المنازل مؤدية الى نتائج حتمية سنويا من تآكل الحائط ومن ثم انهيار كامل.
وفي ذات الإطار قال الناشط هيثم علي من منطقة السامراب أن عدد المنازل المنهارة بالسامراب والدروشاب وصل إلى 33 منزل، كلها انهارت بسبب تآكل الحائط البلدي “الجالوص” بسبب عدم وجود مخارج المياه مما يؤدي الى تساقط المنازل واحدا تلو الآخر.
المزيد من الكوارث
ولم يكن نصيب ولايات السودان الأخرى من الكوارث بأقل مما حدث في عاصمة البلاد. وتشير الاحصائيات الى وقوع عشرات الوفيات وانهيار في المنازل بسبب الأمطار منذ شهر يوليو الماضي، حيث ضربت الأمطار ولاية شمال كردفان، مما الى انقطاع الطريق الرابط بين شمال كردفان والخرطوم. وتعرضت منطقة النهود وبارا الى امطار كثيفة أدت الى وفاة 7 مواطن، وفقدان آخرين وانهيار ما يفوق الـ2000 منزل، اضافة الى الامطار التي اغرقت مدينة كسلا التي تجاوز فيها عدد المنازل المنهارة ال700 منزل. وفي ولاية سنار تسبب زيادة منسوب هطول الأمطار والفيضانات في انهيار سد العطشان بمحلية الدندر. كما أدت الأمطار إلى حدوث أكبر كارثة طبيعية في شرقي جبل مرة بسبب انهيار سلسلة جبلية أودت بحياة العشرات من المواطنين ومازال البحث حتى كتابة هذا التقرير جاري لحصر عدد ضحايا الانهيار وإخراجهم من تحت الأنقاض، الأمر الذي أدى إلى تشريد الأسر. ووصف المواطن آدم ابو الرجال من شرقي جبل مرة الكارثة بأنها مصيبة غير متوقعة. وقال لـ(عاين) “الجبل زايد تشقق وده بعني انو في لسه انهيارات جديدة، والحجار دي لم تشقق بتطاير لمسافة بعيدة فالناس والحيوانات وكل شي حول الجبل عرضة للموت عشان كده شغالين في إبعاد الناس، دون مساعدات من أي جهة رسمية حتى الآن“. وتشير مؤشرات الارصاد الجوي الى ارتفاع مناسيب النيل الذي يهدد مدن الرصيرص، سنار، مدني، الخرطوم، شندي، دنقلا بمعدل 719 مليون متر مكعب متجاوزاً مستوى الفيضان 610 مليون متر مكعب، الامر الذي ينذر ربما بتواصل الكوارث دون حلول عملية أو علمية منظورة من قبل السلطات في كافة أرجاء البلاد.
فساد
وأرجع خبراء حوادث انهيارات المباني السكنية والفصول الدراسية إلى ضعف معايير البناء، وقال خبير هندسي يعمل أستاذ جامعي فضل حجب اسمه لـ(عاين) ان اسباب انهيار المدارس يعود الى عمليات الفساد التي تظل حاضرة منذ التصديق الى التشييد، مع غياب عمليات المتابعة والتقييم، وقد شجع ذلك رؤوس الأموال للبناء دون المعايير اللازمة. وكشف الخبير الهندسي عن انشاء أهم المباني الحكومية في امكنه خاطئة، اضافة الى شركات نافذين في مواقع تُعتبر معبر رئيسي للمياه. وفي ذات السياق كشف الخبير أن “نادي جهاز الأمن الذي تم بناءه حديثاً بضاحية سوبا يقع في ممر مائي، و شكل اعاقة لانسياب المياه ناحية مجرى النيل وهو ما شكل ضغط على الشارع والمناطق المجاورة، ونحن كتبنا للجهات المعنية من مغبة تشييد هذا النادي في مكانه ولكن لا آذان صاغية“. ومضى ذات المصدر كاشفاً عن اختلال موازين البناء للطرقات المعبدة وبناء الأنفاق “لا يمكن أن تبني نفق بشكل هندسي لا يتوافق مع تضاريس المنطقة لا يمكن أن تنصرف المياه في نقطتي ارتفاع دون مراعاة التضاريس الواقعة عليه وتتوقع أن تنساب المياه“.
تخطيط شامل
ويبرر مسئول درء الكوارث بولاية الخرطوم الباشمهندس محمد سعيد الكوارث التي ألمت بالولاية بأن معدلات الأمطار فاقت توقعات هيئة الارصاد الجوي، متمسكا بأن سلطات الولاية قامت بالاحتياطات اللازمة لتفادي الكوارث التي يمكن أن تنجم عن خريف هذا العام. ويقول سعيد في حديث لـ(عاين) ان الولاية قامت بكل الاحتياطات اللازمة لكن التوقع بمعدلات الأمطار والفيضانات من قبل هيئة الأرصاد جاء أقل من المعدلات الحقيقة الأمر الذي جعل استعداداتنا أقل من اللازم. ولكن الأستاذ الجامعي وصف لجنة درء الكوارث بالسودان عامة بالجسم التشريفي، حيث يقول “هذه اللجنة جسم من غير ارادة” وتساءل قائلاً “كيف للحكومة الولائية أن تكون لجنة بعد وقوع الأمطار وكل المؤشرات تشير الى أن أمطار هذا العام سترتفع معدلاتها مما يؤدي الى ارتفاع مناسيب النيل” موضحا أن لجنة الحكومة تم تشكيلها بِمحسوبية، وأفرادها ليست لهم القدرة المهنية على القيام بهذا العمل. وزاد “هي فقط لجنة لحصد الحوافز“.
ويرى الخبير الهندسي الذي تحدث لـ(عاين) ان معالجة كوارث الخريف ليست بالأمر السهل، حيث انها تحتاج الى اعادة تخطيط شامل وهو ما لم تقبل بها السلطات والنافذين فيها بسبب تضارب مصالحهم، موضحاً أن الحلول العاجلة تتمثل في الاستعداد المبكر بدراسة مواقع احتباس المياه، ووضع مجاري بطرق علمية وليست ردميات، ثم إعادة تصميم الشوارع بحيث تتماشى مع التضاريس، واجبار اصحاب الإنشاءات الجديدة على موافاة الشروط حتى لا تغرق المنطقة المعنية بعد بناء عمارته، وتكوين لجان حقيقية تتابع المواصفات في بناء المدارس، المنازل، الطرق الجديدة حتى لا تكرر ذات المضار. وعاد ذات المصدر ليقول “فوق كل ذلك لابد من العمل على مكافحة الفساد لأن الفساد في التخطيط العمراني لا مثيل له“.