شعارات السيادة الوطنية وواقع الرضوخ للضغوط الدولية
في سبيل محاولات نظام الخرطوم فك عزلته الدولية، والعقوبات الكثيرة المفروضة عليه اضافة لمحاولة الخروج من الازمة الاقتصادية الخانقة التي أحاطت به، حاول النظام التلاعب على مختلف المحاور الاقليمية والدولية. وفي سبيل ذلك ارتهن القرار السياسي للبلاد تجاه قضايا حساسة إلى رغبات وضغوطات دول كبرى الأمر الذي انعكس سلبا على سيادة البلاد.
ورغم ان الحكومة السودانية تتمسك علنا بسيادة البلاد، وترفع ذلك كشعار رفضت على أساسه التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية كما رفضت من قبل دخول قوات (يوناميد) دارفور، إلى جانب طرد العديد من كبار موظفي الأمم المتحدة وغيرها من المواقف التي تتخذ منها الخرطوم سيادة البلاد زريعة سياسية لحماية نظامها ومصالح قيادتها، إلا أنها مؤخراً استجابت في الكثير من المناسبات والمواقف إلى بعض الإملاءات والضغوط الدولية.
وواقع الأمر أن الخرطوم بقيادة البشير قد قدم كثيرا من التنازلات للمجتمع الدولي، ومصالح ورغبات دولا كبرى لاسيما الولايات المتحدة الامريكية، بل وفي قضايا ذات ارتباط حقيقي بسيادة واستقلال البلاد كالقبول بانفصال جنوب السودان.
من ناحية أخرى دخلت دول الخليج العربي مؤخرا على هذا الخط واستغلت الأزمات السودانية العديدة، لا سيما الاقتصادية لفرض مصالحها الاستراتيجية والامنية، بل وأيضا وتوجهاتها الطائفية على السودان البعيد عن الصراع المذهبي الدائر في منطقة الشرق الأوسط. وهذا دفع بالسودان إلى دخول الصراع الإقليمي بين السعودية وإيران من ناحية وبين السعودية وحلفائها ضد قطر من ناحية أخرى.
ايران ودول الخليج
اتخذ السودان في وقت سابق قرارا بقطع علاقاته مع الحكومة الايرانية، وإغلاق مراكزها الثقافية، بحجة تدخل إيران في سياسة دول الخليج الداخلية، ودعم المجموعات الشيعية منهم. وعلى ضؤ ذلك اندفعت الخرطوم تؤيد كافة الخطوات التصعيدية التي اتخذتها المملكة ضد إيران وحلفائها، كما أصبح جزءاً من الصراع الإقليمي في المنطقة إذ تم إرسال أكثر من ستة الاف جندي سوداني لحرب اليمن تحت ذريعة حماية أرض الحرمين الشريفين.
وقد أقدمت الحكومة السودانية في سبتمبر من العام 2014 على اغلاق المراكز الثقافية الايرانية والحسينيات وبعض فروعها في الولايات، واعطتها 72 ساعة لمغادرة البلاد، ويعتبرها الكثيرون أنها الخطوة التي قصمت ظهر العلاقات السودانية-الإيرانية المتينه، وأصبح جلياً ان نظام الخرطوم اتجه لبناء علاقات جديدة مع دول الخليج، وبالأخص المملكة العربية السعودية.
وهناك بعض التقارير التي تشير إلى أن الرجل صاحب النفوذ القوي في القصر السوداني آنذاك طه الحسين هو من أصدر القرار القاضي بإغلاق المراكز وأرسلها للنشر بوكالات الأنباء السعودية قبل أخطار القيادة السودانية، في خطوة تبرز مدى السطوة والنفوذ السعودي وتأثيره في اتخاذ القرارات بشأن سياسات السودان الخارجية.
وأكد طه الحسين وهو مدير مكتب رئيس الجمهورية المقال ويعمل حاليا كمستشار سياسي للشئون الإفريقية بمكتب وزير الخارجية السعودي ، أن وساطة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان هي التي أدت إلى رفع الحظر الأمريكي عن السودان في أكتوبر من العام الماضي.
كوريا الشمالية وحزم الضغوط
أن علاقات السودان الخارجية لم ترتبط فقط بدول الخليج وارغام السودان على قطع علاقته بإيران وحدها، الولايات المتحدة الامريكية أيضاً تدخلت كي يقطع السودان علاقاته مع نظام كوريا الشمالية، تحت قيادة (كيم جونغ أونغ)، وارغمت الخرطوم عقب عدة مناورات بالرضوخ لذلك.
ففي شهر مايو الماضي طلبت الولايات المتحدة الامريكية صراحة من الخرطوم، إنهاء كافة أشكال علاقاتها مع نظام كوريا الشمالية المتمرد على الهيمنة الأمريكية وقرارات المجتمع الدولي، بما في ذلك العلاقات العسكرية مع بيونغ يانغ.
وبمجرد انتهاء الحزمة الأولى من الشروط الامريكية التي بموجبها تم الرفع الجزئي للحظر الاقتصادي الأمريكي عن السودان في أكتوبر 2017، أضافت الإدارة الأمريكية حزمة شروطا جديدة ثمنا لتطبيع العلاقات مع الخرطوم ورفع اسمها من قائمة الدول الراعية للإرهاب.
وكانت الحزمة الأولى – التي قالت واشنطن ان الخرطوم التزمت بتنفيذها بالكامل – تمثلت في التعاون في مجال الإرهاب، دعم سلام جنوب السودان، ووقف اطلاق النار وفتح المسارات الانسانية في مناطق الحرب في السودان اضافة الى العمل مع القوى الاقليمية الاخرى في القضاء على وجود جيش الرب الأوغندي في الإقليم.
ولم تكد الخرطوم الراكضة خلف رفع الحظر الامريكي عنها تنهي تنفيذ الحزمة الأولى من الشروط – وفقا للشهادة الامريكية – حتى خرجت ادارة ترامب على الخرطوم بشروط أخرى جاء على رأسها قطع كافة أشكال العلاقات مع كوريا الشمالية، تحسين اوضاع حقوق الانسان في السودان بشكل عام، اضافة لبسط الحريات الدينية ووقف المضايقات ضد المسيحيين في البلاد.
ومثلت زيارة نائب وزير الخارجية الأمريكي جون سوليفان للخرطوم عقب رفع الحظر مباشرة، صدمة للخرطوم إذ وضعت الزيارة شروطا أكثر قسوة من سابقتها، فيما يتعلق بأوضاع حقوق الإنسان، انتخابات 2020م، ضرورة الإصلاح السياسي والاقتصادي في البلاد، كما كشفت تقارير عن رفض سوليفان مقابلة الرئيس البشير الأمر الذي يعني أن سيف المحكمة الجنائية ما يزال مسلطا على قادة النظام وبالتالي على استقلالية اتخاذ القرار في البلاد.
وجاء الطلب الأمريكي مغلفا بضرورة التزام السودان بقرارات مجلس الأمن الدولي فيما يتعلق بكوريا الشمالية المرتبط بقدراتها الدفاعية والعسكرية ومشروعها النووي، لكن باطنه كان واضحا تحذير بضرورة وضع حد لاستمرار العلاقات العسكرية مع كوريا الشمالية، لا سيما عقب ورود تقارير كشفت عن شراء الخرطوم لاسلحة من بيونغ يانغ في أوقات سابقة.
وقد سارع نظام الخرطوم لنفي شبهة وجود أي علاقات بينه وكوريا الشمالية، لكن تنامي الضغوطات أجبرت الخرطوم بالإقرار خلال فترة وجيزة والاعتراف بوجود علاقات عسكرية سابقة لها مع كوريا الشمالية، مؤكدة تأكيدا قاطعا بالعمل على إلغاء كافة العقودات العسكرية الموقعة بينها وكوريا.
وبالفعل أكدت وزارة الخارجية في بيانها الصادر في يونيو الماضي أن منظومة السودان للصناعات الدفاعية، قد الغت كافة العقود الموقعة بينها وجهات منشؤها جمهورية كوريا الشمالية، وأنهت اي علاقة معها مباشرة كانت أو غير مباشرة، كما رحبت وزارة الخارجية بزيارة وفد خبراء المنشأ بموجب قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1718(2006).
أدوار ونفوذ
ويشير الباحث الاكاديمي اسامة عيدروس إلى تشابك وأحيانا تكامل أدوار وأشكال الهيمنة الخارجية على نظام الانقاذ من قبل دول الخليج والمجتمع الدولي وعلى رأسه الولايات المتحدة الامريكية، مشيرا الى اهمية الدور الذي لعبته الدول الخليجية في طي ملف العقوبات الأمريكية على النظام السوداني، ورضوخ السودان لتلك الضغوط، الأمر الذي كان إحدى عائداته قطع العلاقات نهائيا مع طهران.
في أول زيارة للرئيس السوداني للمملكة العربية السعودية عقب قطع العلاقات مع إيران في بدايات العام الماضي 2017، اعترف الرئيس البشير بأن السعودية توسطت لدى واشنطن لرفع العقوبات الامريكية عن السودان، معبرا عن امتنانه لجهود الرياض التي قامت بها.
وكانت تحولات الخرطوم عبر المحاور الاقليمية بدأت في العام 2015 بعد إعلان السودان المشاركة في عاصفة الحزم، مع تحول في استراتيجية مواجهة ما أسماه النظام السوداني بالمد الشيعي في السودان.
ولتبرهن الخرطوم ولاءها لدول الخليج بشأن علاقتها مع طهران، ارسلت مئات الجنود للقتال مع السعوديين ضد المتمردين الحوثيين المدعومين من إيران في اليمن. في المقابل، أودعت السعودية والدول الصديقة الأخرى ما لا يقل عن 2.1 مليار دولار في البنك المركزي السوداني، هو شريان الحياة في الوقت الذي كانت البنوك الأجنبية ترفض التعامل مع البلاد.
ويرى عيدروس ان النظام السوداني يريد الاستفادة من هذه الفرصة الكبير برفع الحظر و تنفيذ الحزمة الأولى من الشروط الامريكية من أجل تطبيع العلاقات مع واشنطن، وطرح نفسه حليفاً مهماً للادارة الامريكية ودول الاتحاد الأوربي في المنطقة بسبب موقعه الاستراتيجي في القارة إضافة الى أدواره في محاربة الإرهاب ومكافحة الإرهاب والهجرة غير الشرعية أيضا.
وفي ذات السياق يتسائل المهندس أشرف الجعلي ماذا جني السودان من التقارب مع ايران، وماذا خسر؟ وبالمقابل ما الذي سيتحقق للسودان من التقارب مع دول الخليج في نهاية المطاف؟.
مصالح ورضوخ
يرى أحمد الزبير من منظمة العفو الدولية ان السودان فقد إرادته في صناعة القرار السياسي تماما لا سيما فيما يتعلق باستقلاليته في صياغة علاقاته الخارجية. ويقول الزبير لـ(عاين) ان مؤشرات عديدة تؤكد هذا الامر واخرها قطع السودان علاقاته مع كوريا الشمالية، بناءا على طلب من واشنطن في يوليو من العام الماضي بعد تمديد ترمب رفع العقوبات الاقتصادية على السودان. واضاف الزبير أن الخرطوم قطعت علاقاتها الاستراتيجية والايدلوجية مع إيران، بل وشاركت في حرب اليمن ضد الحوثيين، بضغط من دول الخليج، بالتحديد المملكة العربية السعودية، نسبة لحوجة الخرطوم للمساعدات الاقتصادية من هذه الدول. ويحذر الزبير من اللعب على هذه المحاور الاقليمية لا سيما انه ليس مبني على مصلحة الشعب في السودان، بل مصالح النظام كي يستمر في السلطة، والمصلحة الاقتصادية الآنية للمجموعة الحاكمة.
وفي ذات الاتجاه يذهب الصحفي حسن بركية، مشيرا إلى أن التدخلات الخارجية في الشأن السوداني، ودخوله في تحالفات اقليمية دون دراية او تمحيص دقيق، يعد نتيجة طبيعية للازمة الاقتصادية الخانقة التي ضربت البلاد. ويتوقع بركية في حديثه لـ(عاين) ان تزداد التدخلات الأجنبية في الشأن السوداني دون أن يجني السودان منها شيء ذو فائدة، إلا اليسير من الدعم لكي يبقيه، دون إيجاد حلول نهائية لمشاكل الاقتصاد.
من جانبه يدافع القيادي الإعلامي في حزب المؤتمر الوطني، دكتور ربيع عبد العاطي عن مواقف الخرطوم وسياساتها الخارجية ويرى فيها تعاملا حكيما مع المقتضيات الإقليمية والدولية. ويقول عبد العاطي لـ(عاين) ان السودان لم يسلم من سياسة العصا والجزرة، وعلى الدوام يتعامل في سياساته الخارجية، باعتبار ان ليس هناك ثوابت في السياسة، لأنها تقع على رمال متحركة. ويؤكد عبد العاطي أن المصالح هي التي توجه وتتحكم في بوصلة العلاقات الإقليمية والدولية. والسودان جزء من هذه المنظومة، وعليه أن يتعامل مع تطورات الواقع.
انسحاب من المعسكر المارق
يوضح الدكتور سليمان بلدو ان بداية تحسين العلاقات مع الادارة الامريكية كانت في عهد الرئيس السابق باراك أوباما، عندما رفعت إدارته العقوبات المالية والاقتصادية المفروضة على السودان، أذاناً ببداية انطلاق حوار دبلوماسي ينتهي بتطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية. وتجدر الإشارة إلى أن أوباما يرى أن فرض العقوبات جربت مع أنظمة مثل كوريا الشمالية، وكوبا، وإيران، لكنها لم تنجح على حد تعبير بلدو. ويقول بلدو في مقابلة حصرية لـ(عاين) ان إدارة أوباما قررت أن تتخذ طرق جديدة، بدلا من فرض العقوبات، واتباع سياسة التحفيز والترغيب، واهم من ذلك ما اطلق عليه المسارات الخمس والالتزام بها، إيقاف العدائيات في مناطق النزاع، والسماح بايصال المساعدات الانسانية للمتضررين، عدم التدخل في شؤون الجنوب، وقطع العلاقات مع جيش الرب، والإرهاب الدولي. ويؤكد بلدو ان السودان بدأ الاستجابة لبعض ما طرح في المسارات الخمس، ويضيف أن ما تبقى من العقوبات الأمريكية على السودان، منها قانون سلام دارفور، باعتباره قانون عقوبات مجاز في الكونغرس، لا يلغيه إلا الكونغرس نفسه.
فيما يرى الكاتب منتصر ابراهيم ان الخرطوم تحاول بمناورات متعددة الانسحاب من معسكر الدول المارقة على السياسات الامريكية والهيمنة الدولية تفاديا للمزيد من العقوبات التي يمكن أن تصل لحد التدخل العسكري. ويقول إبراهيم لـ(عاين) ان الخرطوم بدأت منذ عدة سنوات الانسحاب من معسكر الدول المارقة التي تضم ايران، كوريا الشمالية، كوبا، سوريا بالاضافة للسودان نفسه، مبينا أن ذلك يتضح جليا من خلال خطوات الخرطوم الاخيرة لقطع العلاقات مع إيران وكوريا الشمالية بالاضافة للتباعد من نظام الرئيس السوري بشار الأسد.
ويضيف إبراهيم أن هنالك سيولة في علاقات السودان الدولية بصورة عامة، لأنها تحكم بتغير علاقات القوى والمصالح او تحقيق اهداف او مناورات سياسية في معظمها تعتمد على التكتيكات قصيرة الأمد. ويشير إلى أن اتجاه نظام الخرطوم ذهب مع رياح العلاقات الخارجية الدولية، كي يتجنب بعض العواقب، لكنه يحذر بان ذات القوى الدولية التي ترضخ لها الخرطوم حاليا قد تتواطأ في اتجاه مصالح محددة تؤدي إلى التضحية بانظمة مثل نظام الخرطوم في أي منعرج من منعرجات السياسة الدولية.