جنوب كردفان: أطفال بلا مدارس
دفعت الحرب الدائرة منذ سبعة أعوام في ولاية جنوب كردفان أعداد كبيرة من تلاميذ المدارس إلى خارج حجرات الدراسة مما أجبرهم على التوجه إلى سوق العمل في عدد من الأعمال الهامشية قليلة الدخل لا سيما في مدينة الدلنج.
ومع ارتفاع أعداد النازحين من المناطق المتأثرة بالحرب في الولاية، وقدوم أعداد كبيرة من الأسر إلى مدينة الدلنج، بدأت تتحمل المدارس أعدادا تفوق طاقتها الاستيعابية من التلاميذ الأمر الذي قاد إلى اكتظاظ أعداد كبيرة منهم في الفصول.
وتزداد الأوضاع التعليمية سوءاً في الدلنج مع رفع الدولة يدها عن دعم المسيرة التعليمية، وارتفاع الرسوم الدراسية، في ظل إنعدام معدات الدراسة من طباشير – كتب، كما تتمدد ظاهرة طرد التلاميذ من المدارس بسبب عدم القدرة على سداد الرسوم الدراسية.
دمار ومجهودات شعبية
زمزم بخيت محمد حمدان مديرة مدرسة في مدينة الدلنج، تقول أن الحرب دمرت البيئة التعليمية بالولاية بشكل عام وفي مدينة الدلنج بشكل خاص، مشيرة إلى أن أوضاع التعليم كانت مستقرة في جنوب كردفان بصورة مرضية قبل اندلاع الحرب الاخيرة في العام 2010 “قبل ان تندلع الحرب كانت البيئة التعليمية مستقرة، والتعليم متاح وميسر من قبل الدولة. اما الان فقد اصبح التعليم على أكتاف المجهود الشعبي فقط رغم الظروف الأخيرة التي تأثر بها الجميع”
وتشكو زمزم في حديثها لـ(عاين) من تدهور أوضاع المعلمين في الولاية وتأثرهم بالأوضاع الاقتصادية المتدهورة جراء الحرب الأمر الذي جعل مهنة التعليم نفسها غير جاذبة للمعلمين الموجودين في الولاية، اضافة لعدم اهتمام الحكومة الولائية بتأهيل المعلمين.
“أوضاع المعلمين سيئة، المعلم يعاني من نقصان في معدات التدريس من طباشير والظروف الاقتصادية نفسها تواج المعلم الذي يقطن في منطقة بعيدة من المدرسة التي يدرس فيها، والمرتب لا يكف للترحيل، المعلم تقع عليه كم هائل من الظروف الصعبة”. وتمضي للإشارة إلى تدهور أوضاع الفصول وضعف قدرات الاجلاس في ظل تدفق أعداد كبيرة من الأسر والتلاميذ إلى مدينة الدلنج بسبب الحرب الدائرة في مناطق واسعة من الولاية، الأمر الذي قاد إلى اكتظاظ التلاميذ بصورة غير مسبوقة في الفصول القليلة الموجودة التي يصل عدد التلاميذ في بعضها إلى 100 تلميذ. “المدرسة التي كنت أديرها قبل الحرب، كان أعداد التلاميذ فيها قليل، لكن نزوح المواطنين من المناطق التي تأثرت بتجدد القتال، قاد إلى واقع جديد حيث نزح اعداد كبيرة الى اطراف مدينة الدلنج، والان المدرسة بلغ قوامها 600 تلميذ، وهي إفراز الحرب التي شكلت ضغوط على المدرسة، ولا ننسى كذلك ظروف الأسر الاقتصادية”
جوع وتسرب
وتكشف الاستاذة زمزم مديرة احدى المدارس في مقابلتها مع شبكة (عاين) عن تأثير واسع للحرب علي كافة قطاعات المجتمع، مبينة أن الأطفال هم الأكثر تأثرا اذ يفقد الكثير منهم فرص التعلم بسبب فقر الأسر ونزوحها وعدم توفر فرص العمل لأولياء الأمور، مشيرة إلى تسرب عدد كبير من الأطفال من المدارس و اضطرارهم الذهاب الى سوق العمل في المهن الهامشية بسبب الظروف السيئة التي تمر بها أسرهم. وتقول زمزم أن عدم توفر الغذاء يعد أيضا واحدا من الأسباب الأساسية في تسرب التلاميذ وكذلك ضعف قدرتهم الاستيعابية، موضحة أن “بعض التلميذات لا يأكلن سوى وجبة واحدة في اليوم، أثناء اليوم الدراسي، والطالبة الجائعة لا تستطيع أن تستوعب الدرس، وإغلاق المدارس في مناطق الحرب شكل ضغوطا على المناطق الطرفية، وكل المعينات في المدرسة باجتهاد فردي من قبل المدرسين أشعر بالألم، عندما يشرد الاطفال من المدرسة، أو أرى تلميذ يعمل في السوق، ، والاسرة القادرة تستطيع والأسر الفقيرة لا تستطيع ادخال أطفالها المدرسة، ونتمنى ان تتحسن الظروف الاقتصادية”.
من جهته يقول محمد جبريل نجله الذي يمتهن الأعمال الحرة بمدينة الدلنج، وأب لثمانية أطفال، في حديث لـ (عاين) أن الحرب أثرت على أوضاع الأسر الاقتصادية بصورة مخيفة. مشيرا إلى أن ما لا يقل عن %25 من الأسر بمدينة الدلنج اضطرت إلى قطع تعليم أبنائهم في سن مبكرة. “تدهور الوضع الاقتصادي جعل الكثيرون يخرجون للبحث عن العمل خارج مدينة الدلنج ، الآن حوالي 25% من أبناء الدلنج تركوا المدارس، وذهبوا للعمل في الورنيش، و تجندوا في القوات النظامية، والخروج المبكر للأطفال من المدارس يشكل خطرا على التلاميذ أنفسهم، قد يعلمهم السرقة، ونتمنى ان تقوم الجهات المسؤولة بمساعدة الأسر”.
وتكشف إحصائيات عن تراجع حاد في الإقبال على التعليم يصاحبه معدلات عالية من تسرب التلاميذ من فصول الدراسة عقب اندلاع الحرب في ولاية جنوب كردفان. وتشير الاحصائيات الى تناقص عدد الطلاب بمدارس الأساس، من (276531 عام 2010 الى 258755 عام 2012)، رغم ارتفاع مدارس الأساس من عدد ( 995 مدرسة عام 2010، إلى 1049 مدرسة حكومية وغير حكومية بنهاية عام 2012).
طرد من المدارس
ويشكو نجله من عدم توفر الكتب في المدارس وغياب الحكومة التام عن توفيرها الأمر الذي يلقي أعباء اضافية على الأسر.مشيرا إلى طرد التلاميذ من المدرسة بسبب عدم القدرة على سداد الرسوم الدراسية أو تكاليف الكتب وغيرها.
” الأطفال يطردون من المدرسة بسبب الرسوم، ومع ظروف الحرب لا توجد أعمال، الحرب أثرت على التعليم، والدولة رفعت يدها عن التعليم، وحتى توفير الكتب من قبل الأسر”.
وفي ذات الاتجاه، تشكو سامية نواي من مدينة الدلنج من ارتفاع أسعار الكتب، وتطالب السلطات في الولاية بوضع حد لظاهرة طرد التلاميذ من المدارس بسبب عدم القدرة على دفع الرسوم أو توفير مصروفات الكتب وغيرها.
“الآن المدرسة لا توفر الكتب للتلاميذ، وتعامل المدرسين مع التلاميذ سيئ، وإدارة المدارس تقوم بطرد التلاميذ بسبب ازدياد المطالب من رسوم وغيره، وحتى مستوى التلاميذ متدهورا، وطلبات المعلمين تزداد كل يوم”.
“بعض الأطفال لا يذهبون إلى المدارس، تكلفة التلميذ الواحد الآن تقارب 1000 ألف جنيه، والاطفال يطردون بسبب عدم وجود الكتب، لا بد من تخفيف الغلاء كي نستطيع تربية أطفالنا”.
أما التلميذ عبدالمنان عبدالله عبدالله طالب بالصف السادس في مدرسة سعد بن عبادة الاساسية بمدينة الدلنج، ، فيشكو من انهيار البيئة المدرسية، واستمرار طرد التلاميذ من المدارس بسبب عدم سداد الرسوم الدراسية.
“المدرسة كعبة، مبنية من الرواكيب والطوب، والكتب بقروش، والرسوم في السنة، 150 جنيه، اذا التلميذ لم يدفع يطرد من المدرسة، والفصول الدراسية في الخريف بتكون مليانه بموية المطر، داير المدرسة تشيد بالطوب، والكتب تكون متوفرة، لا نريد أن نطرد من المدرسة بسبب الرسوم”.
منافسة غير عادلة
ويقر مدير المرحلة الثانوية السابق بولاية جنوب كردفان، الاستاذ الطاهر حمدوك تاور بتدهور الأوضاع التعليمية في الولاية، مشيرا إلى أن ظروف الحرب الاستثنائية التي تمر بها الولاية بأكملها تعد السبب الأساسي وراء التدهور الحالي. وكشف تاور عن تسرب حوالي 50% من طلاب المدارس الثانوية الصناعية في كادوقلي في العام 2017.
“من الأسباب المعروفة للجميع الحروب والنزوح التي ضربت الولاية، بالإضافة الى ان بعض الأسر لا تعتبر أن التعليم نفسه ليس اولوية، بل كسب لقمة العيش، ومشكلات التعليم نفسه يتمثل في الحاجة إلى تدريب المعلم، ونقص التأهيل، الإجلاس، والكتاب المدرسي غير متوفر، والبيئة المدرسية غير مشجعة”.
و يشير الكاتب والصحفي قرشي عوض الى ان ظروف الحرب في جنوب كردفان قادت إلى اختلالات كبيرة في العملية التعليمية و خلفت أوضاعا غير عادلة تضع الطالب الذي يجلس للامتحان في مناطق الحرب في منافسة غير عادلة مع رصفائه في الولايات الأخرى التي تتوفر فيها ظروفا أفضل ومدارس خاصة فخمة.
ويشير عوض الى عدم وجود رياض للأطفال في معظم أنحاء الولاية، والنتيجة أن معظم التلاميذ الملتحقين بمرحلة الأساس في الولاية لم يتلقوا التعليم ما قبل الدراسي، وهي المؤشرات ستكون لها نتائج سلبية جدا، وتقود إلى التسرب من المدارس في المستقبل كما تقلل من التهيئة النفسية للتلميذ وتخفض من قدراته الاستيعابية.
ويصف عوض أداء وزارة التربية والتعليم الولائية بالضعيف والذي يتسم بعدم القدرة على ترتيب الأولويات والصرف على المشروعات غير الأساسية على حساب المهام الأكثر أهمية بالنسبة للعملية التعليمية برمتها. ويحذر عوض بأن العملية التعليمية في مراحل الأساس والثانوي في جنوب كردفان بأكملها تعاني من غياب الكوادر التعليمية – الإجلاس -الكتاب وغيرها من المعينات في ظل عدم توفير الدعم اللازم من قبل وزارة المالية الأمر الذي يؤدي إلى ارتفاع نسبة التسرب ويجعل التلاميذ انفسهم وقودا للحرب أو التشرد في المستقبل.
.