تعويم (الجنيه) ورفع الدعم … السير على خطى صندوق النقد
تقرير عاين : 24 نوفمبر 2018
أقدمت الحكومة السودانية في مطلع أكتوبر الماضي على تطبيق سياسة تعويم العملة الوطنية (الجنيه) بالكامل، في خطوة وصفها الخبراء بأنها جاءت في توقيت غير مناسب، محذرين من ارتفاع جديد للسلع وفقدان السيطرة على سعر الصرف والاقتصاد الكلي جراء تلك السياسات. ورغم إصرار القائمين على أمر الاقتصاد في البلاد على رفض إطلاق مصطلح التعويم على السياسات النقدية الجديدة ، الا ان بنك السودان المركزي شكل بناءاً على تلك القرارات ما سمي بلجنة (آلية صناع السوق) وهو جسم مستقل يضم (11) عضواً من مدراء البنوك والمصارف غير الحكومية وخبراء اقتصاديون، مهمتهم إعلان سعر صرف العملات الأجنبية بصورة يومية.
وأعلنت اللجنة بدورها أن سعر صرف الدولار الأمريكي يتراوح بين 46 إلى 47.5 جنيه سوداني. وتلت خطوة الحكومة لتعويم الجنية، ما سمي بـ”الخطة التقشفية” لمدة 15 شهراً والتي يفترض أن تشهد المزيد من تقليل الصرف الحكومي. كما أعلن رئيس الوزراء معتز موسى أن الخطة التقشفية تهدف بشكل أساسي لكبح جماح التضخم الذي وصل إلى ما يقارب 70% في سبتمبر الماضي، لكن إعلان “الخطة التقشفية” الذي صاحب عمليات طباعة عملات محلية بصورة مكثفة لتغطية شح السيولة النقدية من العملات المحلية ينذر في المقابل – حسب مراقبين- بالمزيد من الارتفاع في معدلات التضخم.
رفع الدعم
ورغم إعلان الحكومة عن عدم وجود اتجاه للمزيد من رفع الدعم عن السلع في الموجهات العامة لميزانية العام المقبل 2019، إلا أن اتباع الحكومة لسياسات صندوق النقد الدولي التي تتمسك بضرورة رفع الدعم عن القمح والوقود تشي باحتمالات المزيد من رفع الدعم منذ مطلع العام المقبل.
ويشير وزير الدولة بالمالية مسلم الأمير في هذا الاطار الي رضا المجتمع الدولي عن سياسات الإصلاح الاقتصادي التي تنتهجها الدولة. قائلاً “وضوح الرضا جلياً جاء خلال الاجتماعات السنوية لصندوق النقد والبنك الدوليين التي شارك فيها السودان مؤخراً بإندونيسيا”.
ومنذ العام 2013، يتبع السودان سياسات صندوق النقد الدولي التي تعتمد بالأساس على تعويم العملة الوطنية ورفع الدعم الحكومي عن الوقود والخدمات والسلع الأساسية.
وفي نوفمبر من العام 2017، اجتمع ممثلين للمجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي مع مسؤولين بالحكومة السودانية وتم الإتفاق على المضي في تطبيق السياسات التي طرحها الصندوق، ومنها التعويم التدريجي للجنيه السوداني، وخفض الدعم عن المحروقات والقمح.
وشدد ممثلوا صندوق النقد الدولي على “أن توحيد سعر الصرف أمر حاسم للقضاء على التشوهات التي تعوق الاستثمار والنمو”.
كما أكد ممثلوا الصندوق على الحاجة إلى الدمج المالي لتعزيز الاستقرار الاقتصادي الكلي وخلق مجال للإنفاق العام ذو الأولوية، وأن تقييم رسوم الاستيراد والعائدات النفطية بسعر صرف محدد في السوق يمكن أن يدر عائداً غير متوقع، إلا أن ذلك يلزم اتخاذ تدابير إضافية للحد من العجز المالي، “وينبغي أن يقترن تعزيز تعبئة الإيرادات بإعفاءات ضريبية مبسطة، وإلغاء تدريجي للدعم الحكومي للوقود والقمح، الذي قالوا انه يكلف خزينة الدولة”.
ويحذر الخبير الاقتصادي صدقي كبلو في حديث لـ(عاين) من مآلات تطبيق سياسات صندوق النقد الدولي على الاقتصاد الكلي في البلاد. مبينا “في البدء علينا أن نسأل عن جدوى تطبيق سياسات صندوق النقد والبنك الدولي، في الوقت الذي لا يمكن للدولة الحصول على اعتمادات وتسهيلات ائتمانية، مثل ما حدث مع مصر”. وتابع: “لكن ولأسباب سياسة لن تقدم هذه المؤسسات شيئاً للسودان الذي تنفذ حكومته حزمة مطلوبات سوف تضر بالاقتصاد”.
شح العملات الأجنبية
وأعلنت الحكومة أن الهدف من السياسة المالية التي قضت بتعويم العملة هو معالجة الاختلال بين السعر الرسمي للعملات الأجنبية الذي يحدده البنك المركزي وسعر السوق الموازي، والإستفادة من تحويلات المغتربين وتشجيع الإستثمار. في وقت توقع خبراء أن تؤدي السياسة الجديدة لارتفاع كبير في أسعار السلع والخدمات نتيجة لارتفاع معدل التضخم، في ظل ضعف حجم الصادرات واختلال الميزان التجاري لصالح الاستيراد.
ويمثل احتياطي العملات الأجنبية عاملاً مهماً في سياسة تعويم العملة الوطنية، وكلما زاد حجم الاحتياطي من العملات الأجنبية صار بإمكان البنك المركزي توفير حاجة الطلب عليها مما يؤدي لاستقرار سعر الصرف وثبات قيمة العملة الوطنية.
وعلى الرغم من عدم كشف البنك المركزي عن احتياطيه من العملات الأجنبية، ورفض وزارة المالية الإجابة على الأسئلة المطروحة حول حجم النقد الأجنبي لدى الحكومة، لكن تقارير البنك الدولي وصندوق النقد الدولي تشير إلى أن حجم العملات الأجنبية لدى بنك السودان المركزي في العام 2017، يقدر بــ(177.93) مليون دولار، فيما تذهب تقديرات خبراء اقتصاديون إلى أن حجم الإحتياطي من العملات الأجنبية يصل إلى (3 ـ 3.5) مليارات دولار.
ويرى المحلل الاقتصادي عادل عبد العزيز في تصريح ل (عاين)، أن سياسة تعويم العملة الوطنية أو ما أطلق عليها تحديد سعر الصرف الواقعي عبر آليات العرض والطلب، قد حققت نجاحاً منذ تطبيقها، واستدل على ذلك بما وصفه بــ”الخلل الجوهري” في سعر الصرف خلال الفترة الماضية، وأضاف (المستوردين والمصدرين عبروا عن ارتياحهم من تطبيق هذه السياسة، لأنها تجعلهم يتعاملون بواقعية مع السوق وآلياته)، وتابع: (ايضاً يلاحظ أنها نجحت في جذب مدخرات وتحويلات المغتربين، كما ينتظر أن تحقق فوائد أكبر).
لكن الخبير الاقتصادي صدقي كبلو يقول إن اللجنة الحكومية التي تحدد سعر الصرف ليس لديها ما تعرضه من العملات الأجنبية، ولفت لما وصفه بالتوقيت الخاطئ لإعلان سياسة التعويم، بسبب عدم وجود صادرات ناتجة عن موسم الحصاد، وأضاف في حديث ل (عاين) “حتى السياسة الجديدة فيما يتعلق بشراء الحكومة للذهب لم تأت بنتائج ايجابية، لأن الجميع لم يعد يثق في السندات الحكومية، والناس يتساءلون عن الفائدة التي تعود للحكومة طالما البيع والشراء سوف يتم وفق السعر العالمي”.
وذهب كبلو بأن أكثر ما يثير الفزع هو أن بنك السودان لا يملك السيطرة على ما تشتريه البنوك من عملات، بل هو كذلك يشترى منها حاجته من النقد الأجنبي، وتابع: (هذا ما جعل أزمة الوقود تطل برأسها مجدداً بسبب تطبيق السياسة الخطأ في التوقيت الخاطئ).
ركود
بعد مرور شهر على إعلان بنك السودان المركزي تطبيق سياسة تعويم الجنيه، يؤكد متعاملون في السوق الموازي للعملات أن حالة ركود عامة ما زالت تسيطر على السوق منذ أكثر من إسبوعين، مع توقف متقطع لحركة البيع والشراء.
ويرى أسامة، وهو احد المتعاملين في السوق الموازي إنه لايمكن التكهن بما سوف يطرأ على أسعار العملات الأجنبية مقابل الجنيه السوداني خلال الفترة القريبة، مشيرا إلى أن سعر الدولار الواحد لم يتجاوز (48) جنيهاً في أفضل حالاته حتى الإسبوع الثاني منذ بدء تطبيق سياسة التعويم.
وأضاف اسامة لـ(عاين) “المشكلة ربما تكمن في عدم توفر السيولة الكافية من الجنيه، لمعظم المتعاملين في السوق بسبب سياسة الحكومة في تحجيم الكتلة النقدية، عبر تحديد سقف السحب اليومي من الأرصدة في البنوك والصرافات الآلية”.
وفيما يتعلق بتطبيق سياسة التعويم عبر تحديد سعر يومي عبر آلية السوق التابعة للبنك المركزي، أكد اسامة أن جميع البنوك حالياً لاتتوفر لديها مبالغ من العملات الأجنبية للبيع، وأنها تنفذ عمليات شراء فقط وفق السعر الذي تحدده الآلية.
من ناحيته عبّر رئيس شعبة المستوردين باتحاد اصحاب العمل السوداني حسب الرسول محمد علي، عن تفاؤله بسياسة تعويم العملة الوطنية، واعتبرها خطوة جرئية وموفقة من جانب الحكومة، لأنها رفعت القيود التي كان يفرضها بنك السودان المركزي على عمليات الاستيراد واشتراطه الموافقة على السلع والبضائع المستوردة.
وأضاف لـ (عاين) “منذ تطبيق سياسة آلية صناع السوق، أصبح هنالك استقرار في سعر الصرف، وصارت تكلفة الاستيراد واضحة، عبر الموارد الذاتية من العملات الأجنبية”، وتابع “لكن ذلك يرتبط بتوفير النقد الأجنبي في البنوك التجارية عبر سعر آلية صناعة السوق”.
ودعا محمد علي، البنوك لإعطاء الأولوية في توفير النقد الأجنبي للسلع الأساسية، وخلق وفرة لمواجهة متطلبات الاستيراد، وقال (الآن أصبح أمام المستورد خياران للحصول على النقد الأجنبي، إما عبر صناع السوق أو السوق الموازي الذي أصبح غير مسموح به)، بينما شدد على اهمية توفير النقد الأجنبي من حصائل الصادرات أو مشتريات الجمهور.
مارد التضخم
منذ أكثر من عقدين من الزمان اصبح السودان يعتمد على الواردات بشكل أساس في السلع الغذائية وغيرها من ضروريات المعيشة، إضافة لإستيراد الوقود عقب انفصال دولة جنوب السودان في العام 2011، وعلى الرغم من فائض العملات الأجنبية التي كانت تتوفر لدى البنك المركزي خلال فترة تصدير النفط السوداني، إلا أن الدولة ظلت تعتمد على الاستيراد لتغطية حاجة السوق المحلي، لكن خروج النفط من ميزانية الدولة عقب انفصال دولة جنوب السودان تسبب في حدوث فجوة كبيرة في توفير حاجة المستوردين للنقد الأجنبي.
ووفقاً للإحصائيات الرسمية لبنك السودان الخاصة بالتجارة الخارجية والتي تعتمد على أرقام الصادرات والواردات التي يتم تسجيلها في المحطات الجمركية بالبلاد، بالإضافة إلى ميناء بورتسودان ومطار الخرطوم الدولي، يشير الميزان التجاري خلال الفترة من يناير وحتى يونيو 2018، إلى أن حجم الصادرات قد بلغ (1.828.229) مقابل (3.431.934) للواردات، بعجز وصل إلى (1.603.705).
و لمعالجة التضخم الذي ارتفعت نسبته بصورة متسارعة منذ بدء تطبيق سياسات صندوق النقد الدولي، أعلن بنك السودان المركزي في العام 2017، عن حزمة من السياسات بهدف احتواء معدلات التضخم في حدود 17.0% في المتوسط بالإضافة إلى إحداث استقرار في سعر الصرف من خلال زيادة موارد النقد الأجنبي وترشيد الطلب عليه ومن ثم تحسين موقف ميزان المدفوعات، عبر الاستمرار في تحفيز تحويلات السودانيين العاملين بالخارج وتشجيع الصادرات والاستثمار الأجنبي لجذب موارد النقد الأجنبي للسوق المنظم وتحقيق الاستقرار في سوق النقد الأجنبي.
لكن الجهاز المركزي للإحصاء، أعلن ارتفاع معدل التضخم لشهر سبتمبر الماضي الى (68.46%)، مقارنة بـ (66.82%) لشهر أغسطس من الماضي 2017، بينما بلغ الرقم القياسي لأسعار السلع الاستهلاكية والخدمية معدل التغير الشهري لشهر سبتمبر (13.07) منها (68.1) أي ما يعادل (54.56%) خاصة بمجموعة الأغذية والمشروبات.
وقف التعاملات البنكية
ورغم رفع الحظر الاقتصادي الأمريكي عن السودان منذ حوالي العام إلا ان رئيس شعبة المستوردين باتحاد اصحاب العمل السوداني حسب الرسول محمد علي يؤكد أن مشكلة فقدان التعاملات الخارجية مع البنوك ما تزال تواجه جميع المستوردين السودانيين لأكثر من عام، وهي بحسب ما ذكر تحتاج إلى وقت لإعادتها، وتابع: “نتطلع أن تعيد المصارف قوتها في التعاملات الخارجية عبر مراسليها بالخارج، وان تحل التعقيدات التي تواجهها على الرغم من رفع الحظر الاقتصادي الأمريكي حتى يأخذ مسار الإستيراد وضعه الطبيعي”.
وتوقع رئيس شعبة المستوردين أن تشهد اوضاعهم مزيد من الاستقرار بعد وصول عائدات المحاصيل الزراعية وتدفق تحويلات المغتربين، الأمر الذي قال انه سوف يؤدي لواقع أفضل في استيراد السلع الأساسية، لكنه اشترط أن يصاحب ذلك ترشيداً في الإستهلاك.
ولفت إلى أن تدفق السيولة في المصارف من شأنها أن تضاعف الإنتاج ما يؤدي لزيادة الصادرات، وأضاف “ايضاً نتمنى وضع آليات وحزم اقتصادية للحد من التضخم وخفض الإنفاق” وتابع “هذه الإجراءات سوف تنعكس على الميزان التجاري الذي سوف يقل فيها حجم الإستيراد”.
حل سياسي
ويتوقع الخبير الاقتصادي د. صدقي كبلو، أن ترتفع أسعار السلع جراء سياسة تعويم العملة الوطنية، بينما أرجع الاستقرار الذي تشهده أسعار الفواكه والخضروات حالياً، لأرتفاع العرض بسبب وفرة المنتج من المحاصيل، وقال (سياسة التعويم حرمت المستهلك الاستفادة من زيادة عرض المنتجات المحلية)، لكنه أشار إلى حدوث ارتفاع في السلع والمنتجات الغذائية المستوردة، وأكد أن الإرتفاع الكبير في معدل التضخم بولاية البحر الأحمر خلال الشهر الحالي بحسب ما أعلن الجهاز المركزي للإحصاء، جاء نتيجة لاعتماد الولاية على استيراد منتجاتها من ولايات أخرى، وتابع: (هذا الإرتفاع سوف تشهده الولايات الأخرى، عقب إنتهاء الموسم وتناقص العرض من المنتجات الغذائية المحلية).
واوضح الخبير الإقتصادي لـ(عاين) أن هذه السياسات قد أدت لارتفاع أسعار الخدمات التي يقدمها الحرفيين، بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة وارتفاع أسعار الواردات من السلع الكمالية، وأضاف “حتى تعريفة النقل داخل المدن وبين الولايات أصبحت غير ثابتة، ولم يعد مشغلي وسائل النقل يلتزمون بتعرفة محددة، وهذا الوضع سوف يصبح كارثياً على المستهلك”.
وشدد كبلو على أن حل الأزمة الإقتصادية في السودان هو سياسي في المقام الأول، يأتي عبر إعادة بناء العلاقات الدولية والإقليمية والعمل على إحلال السلم والأمن في الإقليم، لتجاوز العقوبات المفروضة على الدولة، وأضاف “النظام الحاكم في السودان ما زال يشكل هاجساً للمجتمع الدولي، الذي يسعى إلى ترميمه عبر ما يسمى في أدبيات السياسة بالهبوط الناعم”.