تدهور الجنیه السوداني: سیاسات موجهةً أم انهيار مصرفي؟
التوقعات بحدوث نمو في الاقتصاد السوداني وانتعاش النظام المصرفي في البلاد وعودته للاندماج في النظام المصرفي العالمي واجتذاب الاستثمارات العالمية عقب رفع العقوبات الامريكية عن البلاد كلها أضحت احلام ذهبت أدراج الرياح. وبقي الواقع الأكثر قسوة وشبح الانهيار الاقتصادي والمصرفي عقب زوال المبررات التي كان يسوقها النظام السوداني خلال عشرين عاما عقب انكشاف الأسباب الأكثر جذرية للتدهور المعيشي.
وعلى العكس تماما، شهد الجنیه السوداني تراجعا غير مسبوق وتجاوز سعر صرف الدولار حاجز الاربعين جنيها مطلع العام الحالي، فيما تخطت معدلات التضخم ال 50%، إذ قفزت من 25% في ديسمبر 2017 الى 52% بنهاية يناير 2018 وتوال صعودها إلى 54% بنهاية فبراير. ويرى المراقبون أنها مرشحة للمزيد من الارتفاع في ظل الارتفاع الجنوني لمختلف أسعار السلع لا سيما المواد الغذائية.
ومنذ اجازة ميزانية العام 2018 التي استهدفت التماشي مع سياسات صندوق النقد والبنك الدوليين، بتحرير كافة أنواع السلع من الدعم بما في ذلك المحروقات، الكهرباء، القمح والسكر وكافة انواع الصادرات الواردات. وارتفعت أسعار السلع بصورة جنونية وسط غضب شعبي قاد لتظاهرات في العاصمة والأقاليم تعاملت معها السلطات بالقمع والاعتقالات.
وصاحب الميزانية نشاط كبير وسط الأحزاب المعارضة وتصدعات بجسد الحزب الحاكم الذي اضطر لتأجيل مسألة اعادة ترشيح البشير لفترة رئاسية جديدة في اجتماعات للحزب الحاكم خلال يناير الماضي.
ترويض الدولار
تمرد سعر الدولار وتجار السوق السوداء على السلطات السودانية محمولين على واقع الانفلات الاقتصادي غير المحسوب عقب ميزانية 2018، إزاء ذلك الوضع اندفعت الحكومة لجملة من الإجراءات غير الدستورية وغير القانونية من ناحية، ومؤقتة الجدوى الاقتصادية من ناحية أخرى. وذهبت الحكومة لتعويم الجنيه في إطار ما يعرف بسياسة سعر الصرف المرن المدار إلى أن فاق سعر صرف الدولار في الصرافات ال28 أو ما يعرف بالسعر التأشيري للدولار.
وقامت بتجفيف السيولة النقدية من العملة المحلية بتحديد صرف مبالغ محددة لا تتجاوز الخمسة آلاف (خمسة مليون بالقديم) للعملاء من البنوك وتعطيل عمل معظم الصرافات الالية، احتكار تصدير الذهب، اجراء تعديلات واسعة في لوائح الاستيراد التصدير عبر البنوك التجارية. واشترطت موافقة البنك المركزي علي أي عمليات تجارية خارج البلاد، ومنعت شهادة السداد بالاجل (Nill value) في الاستيراد والتصدير.
ووصل الأمر إلى حد توقيف عدد من مدراء البنوك التجارية وإنهاء خدماتهم ووقف العمليات التجارية لعدد من البنوك وتجميد أرصدتها البنكية. وطالت الاجراءات بنوكا شهيرة بل وتعد من أذرع النظام السوداني في السيطرة علي السوق (بنك فيصل الإسلامي) مما يرجح احتمالات انتقال صراعات مراكز القوى داخل النظام مؤخرا من الساحة السياسية إلى السوق. وصدرت قرارات أخري لارغام الشركات والبنوك التي كانت تتلاعب سويا في دفع ما يسمى بحصائل الصادر – وهي نسبة 25% يودعها المصدرون بالعملة الصعبة لدى البنك المركزي- وتم بالفعل معاقبة عدد من الشركات الكبيرة في السوق وبينها شركات حكومية مثل (سوداتل) وأخرى، خاصة مثل الشركة التجارية الوسطى إحدى أكبر الشركات المستوردة للآليات الزراعية في البلاد، والشركة الاسلامية للتأمين وشركات أخرى.
إجراءات أمنية
لم تتوقف الإجراءات الأمنية عند هذا الحد، اذ تم تشكيل لجنة رئاسية يقودها البشير وبعضوية مدير جهاز الأمن ووزراء المالية والتجارة والاستثمار ومحافظ البنك المركزي وآخرون. ومنذ إصدار الميزانية في يناير الماضي توالت القرارات الامنية للسيطرة على سعر الدولار وانقاذ الجنيه المنهار تحت وطأة الإجراءات الاقتصادية التقشفية المتبعة لوصفات صندوق النقد الدولي، والتي لم تطال بعد مواقع الصرف الأمني والحربي والسيادي وسط أجهزة السلطة.
واستمرت القرارات النارية مما عرف بلجنة (ضبط سعر الصرف) مصحوبة بتصريحات متكررة من رئيس الجمهورية للقضاء على من اسماهم ب “القطط السمان” الذين يأكلون قوت الشعب دون تقديم مسؤول حكومي للمحاكمة حتى الآن. أجيزت مراسيم تعتبر التجارة في الدولار أو امتلاكه نوعا من المضاربة في السوق وتدمير الاقتصاد الوطني بل وتقويض النظام الدستوري، وهي تهم تصل عقوبتها للإعدام.
لم تقف لجنة “ضبط سعر الصرف” الرئاسية عند هذا الحد، فتم تقنين امورها قانونيا بصورة شكلية وضم اليها وزير العدل والنائب العام اللذان أكدا قانونية الإجراءات، وشددا على تشكيل نيابة متخصصة لهذا الأمر وإن لم يكن فمحاسبة هؤلاء تحت قوانين المال الحرام أو نيابة الجرائم الموجهة ضد الدولة.
وبدأت حملات واسعة ضد تجار العملة واعتقل بالفعل المئات منهم من الاسواق وشوارع الجمهورية القصر والبرلمان والجامعة بوسط الخرطوم. وقال معتقلون سياسيون مفرج عنهم لـ(عاين) انهم التقوا بالمئات من تجار العملة المعتقلين لفترات طويلة دون محاكمات سواء بسجن كوبر او في المعتقلات التابعة لجهاز الأمن بصورة مباشرة.
ويري الخبير القانوني أحمد عبدالسلام ان الاجراءات التي تمت غير قانونية وليست دستورية، لجهة أنها تحرم المواطنين من حقهم في التجارة والتملك و مراكمة رؤوس الأموال غض النظر عن أساليب الاستغلال التي تتم خلال تلك العمليات، مشيرا الى عدم وجود نصوص قانونية مباشرة تحرم امتلاك أو بيع العملات الاجنبية. ويقول عبد السلام لـ(عاين) ان اعتبار الاتجار في العملات تهديدا للأمن القومي والدستور ينطوي على نوع من الإرهاب للمواطنين وعدم مخاطبة جوهر الازمة، لا سيما في ظل عدم تقديم أي من المقبوضين لمحاكمات. ودعا عبد السلام لحكومة لإثبات جديتها بالتأسيس للمطاردة القانونية للمفسدين وشكل مفوضية محاربة الفساد أو تقديم متهمين كبار للمحاكم تحت قوانين الثراء الحرام أو ما شابه.
تخبط
يقول الخبير الاقتصادي محمد الجاك انه رغم إصرار الحكومة على الإيحاء بعدم تجاوبها مع سياسات صندوق النقد والبنك الدولي، ظاهريا، إلا أنها اعتمدت سياسة تعويم الجنيه لمرتين خلال فترة تقل عن ثلاثين يوما في يناير وفبراير الماضيين إذ رفعت سعره إلى 18 ومرة أخري رفعت السعر التأشيري إلى ما يزيد عن 28، فيما بقي سعر السوق السوداء يتراوح حول الثلاثين. ويضيف الجاك في حديث لـ(عاين) ان الحكومة لم تستطع تحقيق جوهر الأهداف المتماشية مع سياسات صندوق النقد الدولي الرامية لاصلاح التشوهات بجسد الاقتصاد السوداني، اذ فشلت السياسات الحكومية الأخيرة في توحيد سعر الصرف باعتباره واحدة من أبرز التشوهات الاقتصادية منذ انفصال جنوب السودان وفقدان أكبر عملات للعملات الصعبة بذهاب عائدات البترول إلى الدولة الوليدة.
ويضيف الجاك مؤشرات أخري لتخبط لجنة “ضبط سعر الصرف” مثل اسعار تذاكر الطيران باحتساب الدولار عند 18 جنيه ثم تراجعت عنها مرة أخرى وإعادتها لسعر 15 جنيها للدولار، إصدارها قرارات تتعلق باجتذاب تحويلات المغتربين وتغييرها عدة مرات، وأبرز ما في ذلك فتح أبواب التمويل للعقارات والعربات للمغتربين عبر البنوك التجارية السودانية، ثم التراجع والغاء عن تمويل العربات ثم وضع شروط أخري جديدة للتمويل العقاري نفسه.
صندوق النقد وعقبات الإصلاح
كان خبراء اقتصاديون قد حذرو بنك السودان المركزي، من تطبيق سياسات صندوق النقد الدولي، الذي اشترط تحديد سعر صرف الدولار مقابل السوق الحر لمجابهة تحديات السوق العالمية، لتغطية الديون التي وصلت إلى 54 مليار دولار. حيث لعب تطبيق سياسات الصندوق الرامية لإعفاء الديون بسبب ضغط الصندوق دورا بارزا في الزيادات الاخرى وقبلها كانت الخصخصة .
وكان السودان قد بدأ جهوده للإیفاء بشروط صندوق النقد الدولي منذ ال العام 2001م . لكن سرعان ما تم اكتشاف العقبات التي تتطلب الانتقال إلى نظام الاقتصاد الحر، لیقبع الملف بعیدا عن دائرة بذل الجهود الجادة. مضى الحال كذلك في الفترة الإنتقالية لاتفاق السلام الشامل (2005-2011م) – عوامل افقدت المیزان الداخلي توازنه، ملقیة في ذات الوقت على الميزان الخارجي “الصادرات الواردات الاستثمارات” آثار سلبية أدت إلى اضمحلال الميزان التجاري. ووصف الخبير الاقتصادي خالد التجاني النور السیاسات الاقتصادیة بأنها محاولة غير مجدية لمعالجة انهيار سعر الصرف “في محاولة يائسة لمطاردة خيط دخان انهيار سعر صرف العملة الوطنية، قاموا تقييد الصادرات والواردات على نحو العشوائي بلا نظر في تبعات إداریة قصيرة النظر بلا رؤية ولا سیاسات كلیة“.
تداعيات وسخط
ولكن هذه التحذيرات لم تجد اذن صاغية إلى أن وصل الأمر إلى حد انعدام وقود السيارات؛ فضلاً عن ارتفاع السلع الاستهلاكية، بطریقة لا یستطیع المواطن ذو الدخل البسيط مجاراتها.
وشهدت الخرطوم وولايات أخرى في الأيام الماضية صفوف ممتدة بحثاً عن الوقود. (عاین) جلست مع سائقي السيارات لقياس حجم معاناتهم. ففي وسط الخرطوم، منطقة السوق العربي، ویقول أحمد السائر، سائق عربة – أمجاد – انه اوقف المشاوير الطويلة حتى ولو دفع له الزبون مليون جنيه، ويعود ذلك لانعدام الوقود الذي یقول عنه السائر أنه “أصبح نادرا جدا الحصول على وقود تقضى به يومك كالمعتاد“.
في شارع اللساتك بحي السجانة وسط العاصمة السودانیة، یقول أصحاب محلات تعمل في بيع الزيوت واللساتك والاسبيرات مجاورة طلمبة وقود رئیسیة، أنهم ظلوا طيلة الأيام الفائتة بلا عمل لجهة ان الطلمبة عندما تعمل تصطف مئات المركبات ما يغلق الشارع عن محلاتنا ومنع حركة المشترين الوقوف بسياراتهم قرب المحطة.
أحمد سلیمان، صاحب طلمبة رئیسیة بشارع اللاماب في الخرطوم یقول لـ(عاین)، “الطلمبة مغلقة وانا وموظفيها في انتظار الوقود الذى لم یأتینا منذ یومین“. ویضیف سليمان “سددت خلال یوم أمس للشركة الموزعة نحو 500 مليون جنيه نظیر حصتي المعتادة من الوقود لكنها لم تلبى طلبى حتى الآن ومازلت في الانتظار“.
وشملت أزمة شح الوقود قطاعات حیویة ومنتجة سیما التعدين التقليدي عن الذهب، ویقول معدنون من أصحاب الآليات الثقيلة، ان ازمة الجازولين عطلت انتاجهم تماما، لجهة أن هذه الآليات تستهلك كميات كبيرة من البنزین لكنها تنتج بالمقابل ذهبا یمثل مع إنتاج المعدنين التقلیدی حوالي 90% من إنتاج الذهب في السودان.
تضافر أزمة شح الوقود مع غلاء الأسعار وشح السيولة النقدية من قبل البنوك، رفع من حالة السخط لدى المواطنين. وتقول أستاذة جامعية تمتلك حساب ببنك أمدرمان الوطني أنها قامت بكتابة شيك بمبلغ خمسة آلاف جنيه سوداني أوائل مارس الماضي إلا أنها تفاجأت بأن الشيك تم تحويله الى مبلغ اثنین ألف جنیه. “حسابي في بنك امدرمان الوطني عشرة سنوات شهر 3 مشیت اصرف 5 میلیون حولها لي 2 ملیون والموظف قال ده المبلغ العندنا امشي تعالي الاسبوع الجاي“.
مسكنات لآلام صعبة
ولكن الخبير الاقتصادي د. محمد الناير قال إن ما يحدث في السودان لیس انهيارا مصرفيا، موضحاً أنه لیس بعجز المصارف عن توفير السيولة للودائع الجارية أو غیرها بقدر ما انها سياسة البنك المركزي لتحجیم السيولة في السوق.
ویذهب الخبير الاقتصادي خالد التيجاني النور في ذات الاتجاه منتقدا السياسات المؤقته التي تنتهجها الحكومة، مشيرا إلى عدم قدرتها على ضبط سعر الصرف. “حسناً، قد تتم السیطرة مؤقتاً على المزید من انفلات سعر الصرف، ولكن المحصلة النهائية یعني، تجفيف السيولة والتضييق على انسياب عمليات التصدير والواردات، مما يمكن أن يؤدي إلى إصابة الاقتصاد بالشلل التام“. ویضیف لـ(عاین) “ولو كانت الإجراءات الإداریة والأمنیة تفلح في معالجات الاختلالات الهیكلیة في الاقتصاد، لما كانت هناك أزمات اقتصادية أصلاً” واصفاً الإجراءات الحكومیة ب”المسكنات ولن تزيد الطين إلا بلة“.
أما الخبير الاقتصادي رشاد عبد المنعم يرى ان الأزمة تكمن في عدم قدرة الحكومة توفير النقد الأجنبي لسد حاجيات البلاد من أي نقص عبر الاستیراد لتدهور صادرات البلاد. ویقول عبد المنعم لـ(عاین)، “البلاد في وضع صعب للغاية، لجهة عدم قدرة القائمين على الأمر في توفير احتياطات من النقد الأجنبي لسد فجوة المحروقات” واستطرد قائلاً “أزمة المحروقات ستنسحب قریبا على باقي الضروريات بالنظر إلى ضعف الصادرات السودانية التي يعول عليها في الاستیراد“. ویزید عبد المنعم “الحكومة الآن أغلقت في وجهها جميع أبواب الاستدانة والقروض لان الدائنين لا يرون في السودان دولة ذات موارد یمكن ان تعود إليهم أموالهم وفق الاتفاق المعني وفي هذا الأمر تداخلات عدیدة“.