تجارة البشر فى شرق السودان .. أحلام الشباب تقودهم إلى المصيدة
تعد ظاهرة الإتجار بالبشر واحدة من أكثر المهددات الأمنية فى شرق السودان والتى تنامت خلال السنوات الماضية وانتشرت على نطاق الأقليم بولايته الثلاثه كسلا والقضارف والبحر الأحمر،وتمارس هذه الأنشطة مجموعات تتنقل بين عدة دول مثل إثيوبيا و أريتريا والسودان والصومال ومصر وليبيا ، وقد اعلنت دول الإتحاد الأوربى العام الماضى مساعدتها ودعمها للحكومة السودانية من أجل العمل على محاربة المجموعات التى تنشط فى تجارة البشر والحد من أنشطتها.
وأشارت تقارير صادرة عن منظمات دولية إلى تورط مسؤوليين أمنيين فى كل من إريتريا ، السودان ومصر فى هذه الأنشطة وتعاونهم مع أفراد ومجموعات تعمل فى تجارة البشر، لكن حكومة السودان رفضت الأعتراف بصحة هذه التقارير، ونظمت الشهر الماضى بالعاصمة الخرطوم مؤتمراً دولياً من أجل الخروج بتوصيات تساعد على العمل من أجل القضاء على هذه الظاهرة وذلك بمشاركة منظمات دولية وأقليمية.
وقبل اسبوع تمكنت شرطة ولاية كسلا من تحرير ( 6 ) أجانب قدموا من دول الجوار، قالت إن إحدى المجموعات التي تعمل في تهريب البشر كانت قد إختطفتهم ، وبحسب مدير شرطة الولاية اللواء شرطة عمر المختار الذي قال في تصريحات صحفية “إن المجموعة التي احتجزت الأجانب طالبت بدفع فدية لإطلاق سراحهم، وبناءً على معلومات توافرت للشرطة قامت بمداهمة الموقع الذي تم فيه احتجاز المختطفين وتحريرهم ” ، وأضاف ” لقد وجدتهم الشرطة مقيدين بالسلاسل الحديدية ويعانون من الجوع والعطش، وأن الجناة قد هربوا أثناء تحرير المحتجزين الذين تجري عمليات توفير الرعاية والغذاء لهم جراء ما تعرضوا له في الاحتجاز من مهربي البشر “.
حلم الهجرة إلى سويسرا يقود حنان الى تجار البشر
حنان فتاة إريترية فى نهاية العشرينات من العمر تعرضت أيضاً لتجربة قاسية مع تجار البشر ، حيث ذكرت قصتها لـ (عاين) والتي بدأت من داخل دولة إريتريا فى مدينة كرن حينما أخبرها أحد أصدقائها عن وجود أشخاص يمكنهم القيام بتهريبها إلى داخل الأراضي السودانية ، ولانها كانت تعانى من ظروف إقتصادية ومعيشية صعبة لم تتردد فى قبول الفكرة ، وتقول حنان إن لديها شقيقة تعيش فى سويسرا وكانت تطلب منها مراراً المجئ إلى السودان حتى تساعدها فى الهجرة إلى أوروبا ، لكنها قالت أنها لاتستطيع السفر بطريقة قانونية لعدم أدائها الخدمة العسكرية فى إريتريا ، لذا كانت فكرة التهريب هى الصائبة ، وتواصل حنان حديثها قائلة ” إتصلت بأولئك الأشخاص الذين أكدوا لى إمكانية تهريبي إلى السودان مقابل (150) الف نقفة إريترية (أكثر من 2000 دولار) ، وبمساعدة شقيقتى إستطعت إكمال المبلغ المطلوب “
وتضيف حنان ” فى الموعد المحدد تحركت إلى مدينة قلوج القريبة من الحدود السودانية بمعاونة أحد المهربين ، مكثنا هناك يوم وفى مساء اليوم الثاني تم نقلنا عبر سيارات مع مجموعة من الفتيات والشبان إلى منطقة أشبه بالغابة ، ومن تلك المنطقة طلب منها المهربون النزول من السيارات والسير على الأقدام بصحبة ثلاثة منهم ، ولمدة يومين كنا نسير حينما يحل الليل ونرتاح خلال النهار وفى منتصف ليلة اليوم الثانى أوصلنا المهربون إلى مكان به عدة منازل من القش هنالك وجدنا مجموعة أخرى من الهربين حوالى خمسة أشخاص يحملون فى أيديهم بنادق آلية كانوا فى إنتظارنا .
خمسة الف دولار مقابل حياة كل فرد
وتقول حنان ” حينما وصلنا إلى تلك المنطقة أخبرونا أننا داخل الأراضى السودانية وتحت تهديد السلاح تم تقيدنا بالسلاسل ثم طلبوا منا أرقام هواتف أقاربنا فى السودان وفى أوروبا وفى أريتريا ، وعندما سألناهم قالوا لنا أنهم لن يطلقوا سراحنا حتى يدفع لهم أقاربنا مبلغ (5) الف دولار عن كل فرد ” ، وتضيف ” عن طريق هاتف الثريا إتصلوا بشقيقتى وأخبروها أننى سوف أظل رهينة لديهم مالم تقم بتحويل المبلغ عن طريق إحدى الصرافات فى السودان ،وحذروها من عواقب إبلاغ الشرطة ، حيث ظللت أكثر من إسبوعين مع المهربين حتى تمكنت شقيقتى من تحويل المبلغ المطلوب ، ثم أتى أحد المهربين وأخبرنى بأنه سوف يوصلنى فى المساء إلى مدينة كسلا ، وأنه يجب على أن أستعد للمغادرة ،وكان معى إثنين من الشباب أيضاً تمكنت أسرهم من دفع المبلغ المطلوب ” ، وتمضي في حديثها ” فى المساء تم عصب أعيننا وأدخلونا فى سيارة (بوكس دبل كابينة) بصحبة ثلاثة من المهربين ، ثم سارت بنا العربة فى طرق متعرجة كثيرة وبعد عدة ساعات فك المهربين العصابات من اعيننا ، وأخبرونا أننا داخل مدينة كسلا ، وفى مكان نائى بأحد الأحياء الطرفية لمدينة كسلا ، أنزلونا وطلبوا منا الإتصال بمعارفنا فى المدينة “.
وتقول حنان ” حينها لم أصدق أننى حرة طليقة !! واننى قد عدت إلى الحياة مرة أخرى !! ومكثت فى كسلا حوالى عام مع بعض اقاربى قبل أن انتقل الى مدينة بورتسودان ، ورغم أننى لازلت أفكر فى الهجرة إلى شقيقتى فى سويسرا ، إلا انني لا أود تكرار تلك التجربة المريرة مرة اخرى، بل أريد أن اسافر عبر الطرق الرسمية كلاجئة “.
ليبيا واحدة من بوابات الهروب إلى أوروبا
فى أحد الأحياء الطرفية بمدينة بورتسودان تسكن أم محمد التى سردت لـ (عاين) قصة إبنها المحتجز لدى إحدى عصابات تجارة البشر منذ أكثر من (4) أشهر، وتقول إن إبنها الذى يبلغ من العمر (26) عاماً كان دائم التطلع للهجرة خارج السودان ، وكثيراً ما كان يتزمر من عدم تمكنه من الحصول على عمل جيد فى السودان ، حتى أخبرها ذات يوم عن نيته للهجرة إلى ليبيا على أمل أن يهاجر من هناك إلى إحدى الدول الأوروبية.
وتقول أم محمد ان ابنها كان يصر لتنفيذ فكرته في الهجرة الى ليبيا ، وتضيف ” ومع إصراره لم يكن أمامى إلا أن قمت ببيع مصوغات ذهبية خاصة بى لمساعدته فى المال المطلوب من أجل السفر، وكان حينها قد تعرف على بعض الشباب فى بورتسودان تمكنوا من إقناعه بجدوى السفر إلى ليبيا عن طريق وسطاء سوف يقدمون لهم المساعدات اللأزمة للسفر” وتواصل أم محمد ” المبلغ المالى الذى كان بحوزة إبنى أقل من المطلوب، لكن المهربين قالوا له أنهم سوف يساعدونه فى الحصول على عمل فى ليبيا وحينها يمكنه سداد باقى المبلغ ، ولأن إبنى كان مندفعاً للسفر فقد قبل بهذا العرض وودعنى وغادر معهم، وبعد عدة ايام إتصل بنا شخص من رقم هاتف عادى وقال لنا إن إبننا فى قبضتهم قرب الحدود مع ليبيا وأنهم لن يطلقوا سراحه حتى نقوم بدفع مبلغ (10) الف جنيه سوداني لاحد الأشخاص فى بورتسودان “.
المهربون يطلبون الفدية مقابل اطلاق السراح
وتقول أم محمد ” حينها أدركت أن حياة إبنى فى خطر وأن علينا أن نقوم بجمع هذا المبلغ، لكن أوضاعنا الإقتصادية الصعبة لم تمكننا من إكماله لان والده يعمل باليوميات فى ميناء بورتسودان ، وبمساعدة عدد من الأقارب تمكنا من جمع جزء المبلغ المطلوب ، وتضيف ” الخاطفون قالوا لنا فى حال أبلغتم الشرطة فإننا سوف نقوم بقتل إبنكم ولن تروه مرة أخرى، وعلمنا بعد ذلك أن إبننا ليس وحده المختطف بل معه مجموعة من الشباب أيضاً طالب المختطفون أسرهم بدفع مبالغ مالية على حسب وضع أسرة كل واحد منهم ، وأن بعضهم دفعوا لهم وتمكنوا من إطلاق سراح أبناءهم” وتمضي قائلة ” طيلة الأشهر الماضية نحاول إكمال المبلغ ولكننا لم نتمكن حتى الآن ، وما جمعناه من مال سلمناه لأحد الأشخاص ببورتسودان الذى قال لنا حينما تكملون المبلغ فإننا سوف نطلق سراح إبنكم ” وتضيف أم محمد ” أصبحننا نقتطع من قوت يومنا ووالده يعمل ليل نهار من أجل إطلاق سراحه وليس لنا سوى الصبر لنتمسك به وأملنا فى الله كبير ليعود إلينا إبننا مرة أخرى “.
جثث مجهولة الهوية وخالية الاحشاء
وفى قرية عيدب جنوب غربى مدينة بورتسودان عاصمة ولاية البحر الاحمر وبالقرب من الحدود مع دولة إريتريا ، أبلغ المواطنون الشرطة عن عثورهم على جثث مجهولة الهوية وخالية من الأحشاء ، وقال عدد منهم لـ (عاين) إن العثور على مثل هذه الجثث تكرر كثيراً خلال الأشهر الماضية ، والدلائل تشير إلى أن هذه الحوادث ذات صلة بنشاط المجموعات التى تعمل فى تجارة الأعضاء البشرية ، فالجثث التى تم العثور عليها تعود لمواطنيين إريتريين بحسب الملابس التى يرتدونها بالإضافة إلى وجود عملات إريترية بحوزتهم ، وأضاف المواطنون أنهم قد أبلغوا الشرطة بهذه الحوادث لكنها لم تقم بإتخاذ أى إجراءات تأمينية إضافية ، كما عبروا عن خشيتهم من أن يستهدفهم تجار الأعضاء البشرية لاسيما أن عدد كبير منهم يعملون كرعاة فى المنطقة وفى كثير من الأحيان يضطرون إلى التجوال بمفردهم .
القوانين غير كافية لمحاربة تجارة البشر
من جانبه يقول مدير شرطة ولاية البحر الأحمر السابق الفريق معاش حيدر أحمد سليمان لـ (عاين ) ان ولاية البحر الأحمر أصدرت فى العام 2008م قانون مكافحة تهريب الأشخاص الذى تمت إجازته من قبل المجلس التشريعي للولاية، وقد تضمن القانون عقوبات رادعة تشمل الغرامة ومصادرة المواعين التى يتم عبرها تهريب الأشخاص وإيوائهم بالإضافة إلى السجن ، وأضاف ” لكن القوانين غير كافية مالم تتضافر عوامل أخرى تبدأ بالتنسيق بين الأجهزة الأمنية فى الولايات التى تعتبر معابر لتهريب البشر ، والتنسيق على مستوى الدول التى تتم فى أراضيها جزء من عمليات التهريب ، والسودان يعد واحداً من هذه الدول على إعتبار أنه معبر للأشخاص القادمين من دول القرن الأفريقى أو غرب أفريقيا بغرض الهجرة إلى الخليج أو أوروبا عن طريق ليبيا ومصر.
ويشير سليمان إلى ان المجموعات التى تمارس هذا النشاط عبارة عن شبكات تعمل في تهريب البشر بتسفيرهم الى دول اخرى بطرق غير قانونية ويقول ” وتعمل أيضاً فى الإتجار بالبشر الذى يشمل أنشطة مختلفة تتعامل مع الإنسان على أساس أنه سلعة قابلة للتداول للإستفادة منه فى اعمال السخرة والدعارة أو بيع جزء من أعضاء جسمه ” ، ويضيف ” فى الشهر الماضى إنعقد بالخرطوم إجتماع شارك فيه ممثلين لوزارة العدل والداخلية وبمشاركة عدة دول بالإضافة إلى العديد من المنظمات ، ويقول ” وكان المؤتمر مخصص لمكافحة ظاهرة الإتجار بالبشر وهو بداية وخطوة جيدة جداً من أجل محاربة هذه الظاهرة، وفى إعتقادى أن الخطوة القادمة ينبغى أن يتم اختيار السودان كدولة مقر لهيئة معنية بمحاربة تهريب والإتجار بالبشر “، ويرى ان على الدول الأوربية أن تمد السودان بالمعينات المطلوبة للحد من الظاهرة لاسيما وأنها قد عانت كثيراً من تداعيات الهجرة غير المشروعة التى تكلفها مبالغ طائلة ، وهذه الهيئة يمكن أن تعينها فى التخفيف من الاعباء التى تواجهها، ، ويقول ” ولكن كما ذكرت على الدول الاوربية مد الدول التى تتم على أراضيها هذه الأنشطة بالمعينات اللازمة لمحاربتها “.
لايمكن محاربة أحلام الشباب
ويقول مدير شرطة البحر الأحمر السابق ان هنالك جانب آخر من المعالجات تتمثل فى ضرورة أن تبحث أنظمة الدول المعنية بهذه الظاهرة فى أسباب هذه الهجرة غير المشروعة، ولماذا يهرب مواطنيها رغماً عن المخاطر التى قد تواجههم ، ويضيف ” لكن للآسف معظم أنظمة هذه الدول لا تلجأ لمثل هذه الحلول وهي ايضا مواردها محدودة ،وبدلاً من ان تستخدمها فى خلق فرص إستقرار لهؤلاء الشباب تستخدم هذه الموارد لحماية الأنظمة الحاكمة ” ويشير الى ان معالجة أسباب الهجرة هو الحل الاعظم، غير ان صعوبة محاربة هذه الظاهرة تأتي من كونها محاربة لأحلام مجموعات كبيرة من الناس ، حتى وإن كانت هذه الأحلام غير مشروعة وهذا أصعب من مكافحة الظاهرة المتمثلة فى الأنشطة .
ويرى سليمان أن البلاغات التى تم تدوينها تشير إلى أن هذه القضايا لم تصل لمرحلة الظاهرة المزعجة لكن بالتنسيق يمكن أن يحد منها ، ويضيف ” ان حركة الأشخاص داخل السودان وعلى الحدود تتم عبر طرق يمكن رصدها ومتابعتها لذا تحتاج الدول التى تنشط فيها تجارة البشر إلى تنسيق عالي لمراقبة الحدود فيما بينها ” ويقول ” لكن للآسف هنالك دول تتهرب من مسؤليتها وتتنكر لمواطنيها الذين يتم ضبطهم مقيمون داخل السودان بطريقة غير قانونية حتى لاتتحمل تبعات ترحيلهم إلى بلدانهم ” .
من جهته يقول عضو مجلس ولاية البحر الأحمر التشريعى حامد إدريس سليمان قال لـ (عاين) ان هنالك قصور من أعضاء مجلس ولاية البحر الأحمر لسن قوانين رادعة تحد من أنشطة العصابات التى تعمل فى تجار البشر، والمجلس يعمل وفقاً لتوجيهات حكومة الولاية التى لاتضع محاربة هذه الظاهرة فى اولوياتها ، ويضيف ” القانون الخاص بتهريب البشر لسنة 2008 جاء ضعيفاً ولم يستطع الحد من نشاط الشبكات الإجرامية التى تمارس هذا النشاط، وكان ينبغى على مجلس الولاية التشريعى وضع هذه الظاهرة فى اولوياته بدلاً من اللهث وراء سن القوانين الإستثمارية التى تأتى وفق أهواء والى الولاية محمد طاهرايلا ” ، ويقول” لقد تقدمت أكثر من مرة بطلب لرئيس المجلس التشريعى لتخصيص جلسات لمناقشة هذه القضية لكنه لم يكن يأبه لطلباتى ويعمل على تجاهلها ولم يبدى أى تعاون فى هذا الخصوص”
اذن ظاهرة تجارة وتهريب البشر في السودان والدول المجاورة هي مركبة من الواقع السياسي والاقتصادي لتلك الدول وما يعاينه الشباب الذين يشكلون غالبية الضحايا ، حيث حلم السفر لجمع المال من الدول الاوربية ، الى سن القوانين الرادعة وضعف التنسيق الامني بين الدول المهربة والعابرة ، اضافة الى ان دول المحطات النهائية في اوربا التي اصبحت مطالبة اكثر من اي وقت مضى في مساعدة هذه البلدان للحد من هذه التجارة الخطرة .