الموازنة الجديدة … اقتصاد الحرب
– شبكة عاين – ٦ يناير ٢٠١٦ –
منذ اندلاع الحرب الثانية بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية (قطاع الشمال) قبل اربع سنوات في منطقتي النيل الازرق وجنوب كردفان / جبال النوبة، واستمرار الحرب في دارفور قرابة اثنتي عشر عاماً، وبعد إنفصال جنوب السودان بذهاب عائدات النفط التي كانت تغطي (80) بالمئة من ميزانية الدولة، تدهور الوضع الاقتصادي في البلاد بشكل سريع ووصل الى حافة الانهيار، وقد انعكس ذلك على حياة المواطن خاصة بعد قرارات رفع الدعم عن المحروقات في العام 2013، الى جانب تدني سعر صرف الجنيه السوداني مقابل العملات الاخرى، حيث بلغ سعر الدولار (11.6) جنيه سوداني.
وكان الجنرال الكيني السابق والمبعوث الخاص للايقاد في مفاوضات السلام بين الحكومة والحركة الشعبية، ليزرا سمبويا، قد تنبأ في وقت سابق بقوله في تصريح مقتطب (إن عودة الحرب الى السودان، تعني إنهيار الدولة)، ويُرجع خبراء إقتصاديون أن سبب تدهور العملة المحلية، وزيادة معدل الفقر وسط المواطنين هو إستمرار الحروب في مناطق النزاع الثلاث واستنزافها لميزانية الدولة بشكل كبير. وعلى الرغم من تحذير الخبراء العسكريين من مغبة هذه الحروب، الا ان الرئيس السوداني عمر البشير طالب بزيادة الصرف على الجيش والامن بقوله في خطاب له برئاسة اركان القوات الجوية في شهر ديسمبر ٢٠١٥ (بعض الأصوات التي تتحدث في الشارع أو في وسائل الإعلام عن ميزانية القوات المسلحة، أقول لو كل ميزانية الدولة تم تحويلها بنسبة 100% للقوات المسلحة لتأمين البلاد هي شوية عليها).
قوت المواطن العمود الفقري للحرب
ويعتقد الخبير الإقتصادي محمد إبراهيم كبج ان إتفاقية السلام الشامل التي إنتهت بفصل جنوب السودان كانت هدنة لاستئناف حرب جديدة، وان الحكومة السودانية كانت تعد لهذه الحرب، ويقول لـ(عاين) إن تمويل الحرب في السودان يتم استقطاعه من المواطن وهو يمثل العمود الفقري لتمويل الحرب، إضافة الى بعض الإعانات من إصدقاء الحكومة، وتشمل الاستقطاعات الضرائب، الزكاة والجبايات التي ظل نظام الحاكم يجمعها حتى بلغت جملة الأموال المتحصلة من الضرائب اموال ضخمة قادرة على تمويل الحرب، وأصبحت نسبة “75%” من ميزانية الدولة تذهب الى الامن والدفاع، فضلاً عن الإستقطعات الأخرى التي تدفع للمليشيات التي تستخدمها الحكومة في الحرب.
حصة الدفاع
وذهب استاذ الإقتصاد في الجامعة الأمريكية بالقاهرة الدكتور حامد علي في ذات الاتجاه بقوله إن أولويات الصرف في ميزانية العام الجديد تعكس بجلاء سياسات المستقبل، مشيراً الى فشل حزب المؤتمر الوطني الحاكم في ادارة البلاد. موضحاً أن الصرف على الجيش والامن يُسْند تحليل إتجاه الحكومة لبسط سيطرتها بالقوة اكثر مما كانت عليه، ويعتقد أن موازنة العام 2016 ستغلب عليها زيادة في الرواتب والحوافز للعسكريين من مكونات الخدمة العامة، ويضيف (هذا في الظاهر اما في الباطن الغرض هو زيادة حصة الامن والدفاع لشراء الذمم بالرشاوى والتجييش خارج المؤسسة العسكرية في الخرطوم، لزيادة آليات القمع الممهنج).
ويشير علي الى أن بند الصرف على القطاعات الرئيسية الاخرى لم ينال أي إهتمام منذ عهد بعيد، ويقول ان ميزانية الصحة لم تتجاوز “3%” وكذلك التعليم وبقية الخدمات التي تحظى بحصة كافية في موازنات الحكومات المحترمة ويضيف (نلاحظ في الموازنة عملية التجريف للمصادر، مع تدهور الزراعة بسبب الحروب وجفاف المواقع الرئيسية التي كان يٌعتمد عليها في الماضي مما شكل موجة نزوح عالية من مناطق الإنتاج في الريف الى مناطق الإستهلاك في المدن بدعوى البحث عن حياة افضل في العواصم).
وقد تحولت القوى المنتجة الى مستهلكة منذ سنوات وزاد حجم الطلب حتى على الحبوب في ظل الضغط الاقتصادي، بالمقارنة مع زيادة التمويل للدفاع والامن لحماية النظام، ويقول خبير عسكري فضل حجب اسمه لـ(عاين) ان الاموال التي يتم صرفها على الحرب تفوق نسبة الاموال الخارجة من الميزانية العامة للدولة، وعملية تسيير كتيبة من الجيش بكامل عدتها العسكرية وتشوينها الحربي يقدر بنصف مليون دولار يومياً، اما الطلعات الجوية للقصف الجوي تعادل 30 الف دولار في الطلعة الواحدة، ويقول الخبير العسكري إن المعدل اليومي اثناء العمليات يطلق سلاح الجو السوداني مابين (5-10) طلعات جوية لمناطق الحرب. ويضيف أن الحوافز العسكرية فإن نسبتها تكون حسب القوة المتوجهة الى الحرب، موضحاً إن هنالك إحتياطي مالي من رئاسة الجمهورية الى جانب عائدات الذهب والنفط وهي غير مرصودة في ميزانية الدولة ويتم صرفها في الحرب وتهيئة المليشيات مثل “الدعم السريع” التي تحتاج إلى اموال ضخمة لتغطية إحتياجتهم ومرتبات رجال المليشيات.
وربط البروفسيور حامد علي تدهور الاقتصاد السوداني بتعاملات الحكومة مع (أكثر من ألف شركة خارجية من دول العالم المختلفة بطرق غير رسمية تفادياً للعقوبات الإقتصادية المفروضة على البلاد، ويقول (لكن انكشفت هذه الشركات والبنوك وتم حصرها)، ويعتقد أن ذلك كان سبباً في زيادة سعر صرف الجنيه مقابل العملات الاخرى، وهو ما أدى الى إضعاف الناتج المحلي مقابل الإعتماد على الطرق غير الرسمية في سد الفجوات مما يزيد من عمولة الوسطاء، وتوقع إنخفاض سعر الجنيه مقابل الدولار في الثلاث اشهر القادمة، قائلاً (ربما يصل سعر الصرف الى (20) جنيه سوداني في ظل استمرارالحرب في جنوب كردفان، دارفور والنيل الازرق، مع استمرار الصرف على الامن والدفاع، ويتابع (في هذه الحالة، سيحدث إنكماش للاقتصاد وستزداد الفجوة الغذائية لعدم قدرة الحكومة إستيراد الحبوب والدقيق). ومع تدهور الأوضاع الأمنية في محيط الأمن الغذائي في مناطق الانتاج وإنخفاض تحويلات المغتربين التي تدنت من”3″ مليار دولار الى”3″ مليون دولار سنوياً.
كل هذه الاسباب ترجح كفة المجاعة في السودان خلال الاشهر الستة القادمة اذا لم يتم تدارك الاوضاع منذ الآن، وهنالك مؤشرات كثيرة ترجح وقوع هذه المجاعة بما في ذلك مؤشرات رسمية من المخزون الاستراتجي التابع للحكومة. ويقول دكتور حامد (وفي هذه الحالة سيضطر الناس الى الخروج الي الشوارع ثأئرين ضد الجوع وثورة الجياع هي الوحيدة التي لن يصدها القمع)، ولذلك إتجهت الحكومة الى زيادة الوجود الامني في المدن الرئيسية، ويتضح ذلك من خلال تكثيف قوات الجنجويد في اطراف العاصمة القومية وإستعراض القوة العسكرية في الخرطوم وضواحيها في الاسابيع الماضية لترهيب المواطنين وتخويفهم من مغبة الخروج في تظاهرات ضد النظام.
اكثر من خمسة مليون مواطن لايجدون الطعام في مناطق الحرب
وبالعودة الى الخبير الاقتصادي محمد ابراهيم كبج الذي اتفق في حديثه مع البروفسيور حامد على حول زيادة حدة الفقر، ويقول كبج ان إزدياد نسبة الفقر في السودان بإستدراك تاريخ الحكومة السودانية منذ وصول حكومة الانقاذ للسلطة عبر انقلابها في العام 1989، عمدت على ضرب الإقتصاد السوداني بإزالة “ثلاثة اصفار” من الجنيه السودني الذي تحول الى مليم بدلاً عن جنيه كقيمة اقتصادية)، ويضيف (ذلك بعد عملية تغيير العملة وإرجاعها من جنيه الى دينار ثم الى جنيه بعد توقيع السلام)، ويشير الى إن سعر الوقود والمحروقات قفز من (10 جنيه الى 24.000) جنيه بسعر الجنيه الحقيقي وليس الحالي، ويقول (هذا يوضح مدى الخراب الذي دخل على الإقتصاد السوداني خلال فترة حكم الانقاذ).
(الخبير الإقتصادي محمد إبراهيم كبج)
واوضح كبج أن نسبة االفقر بسبب الصرف على الحرب بعد العام 2011 وصلت الى 69% في اقليم دارفور وحده، وفق إحصائية رسمية صادرة من الحكومة، وإن هنالك اكثر من (5) مليون من المواطنين من مناطق جنوب كردفان وجنوب النيل الازرق ومناطق اخرى لايجدون طعاماً كافياً بعد إندلاع الحرب في 2011 وفق إحصائية قامت بها وزارة الصحة الإتحادية، ويشير الى إن الحكومة السودانية كانت قد رفعت شعار (السودان سلة غذاء العالم) فيما اسمته بالعشريات التي قسمت مواسم الانتاج الى عشر سنوات اولى وثانية ابتدأت في العام 2002. ويقول كبج ان جملة مال الإستيراد قد بلغت (72) مليون دولار، لكنه تصاعد في العام 2010 قبل اكتمال العشرية الاولى فبلغت اموال الاستيراد 200 مليون دولار بزيادة مبالغة، وفي المقابل وصلت نسبة استيراد القمح الى (2) مليون و200 الف طن، بعد ان كانت (250) الف طن، فزادت نسبة المال في استيراد القمح وحده (10) مليار دولار، ويضيف (السبب الرئيسي هو نقصان الحبوب لفشل الزراعة اما لأسباب الحرب او التهجير)، وقطع بأن الموازنة الجديدة لن تصل الى اي حلول طالما ان الحرب متواصلة.
الحل الوحيد يكمن في تغيير النظام
ويستبعد المحلل الاقتصادي كمال كرار، ان تتضمن الميزانية الجديدة حلول اقتصادية ناجعة، ويقول لـ(عاين) إن إعادة هيكلة الحكومة للسلع الإستراتيجية يعني زيادة جديدة في السلع الرئيسية، ويضيف أن الحكومة تريد تحميل المواطن فشل الإنهيار الإقتصادي، ويشير الى أن الميزانية الجديدة ستلقي بأعباء جسيمة علي المواطنين وان الاوضاع الاقتصادية ستصير اسوأ من سابقتها، ويضيف ان الغلاء (سيصبح مضطرداً، وسينعكس على الخدمات الاساسية)، وتوقع ان تزيد الميزانية المتوقعة من حدة الافقار لانه يعكس نهج الرأسمالية الطفيلية وصندوق النقد الدولي، الذي يمثل المرجعية الأساسية لوضع ميزانية السودان، مؤكداً ان الحل الوحيد للخروج من الإنهيار الإقتصادي هو ذهاب النظام.
وكشفت جولة أخرى لـ(عاين) عن زيادات في تعرفة السفريات قبل اجازة الموازنة فاصبحت تذكرة السفر من الخرطوم إلى مدني، تبلغ (50) جنيها بدلاً من (39)، وكانت تعرفة سفريات “الخرطوم – مدني” زادت بنسبة (25%)، وأكد مصطفى إسماعيل، ممثل تحصيل غرفة البصات السفرية ببحري لــ(عاين)، تعضيد غرفة النقل القومية للبصات السفرية لمنشور زيادة التعرفة بنسبة (25%) منذ عيد الأضحى بمنشور آخر صدر منذ الثاني من أكتوبر الماضي، وقال إن التعرفة ارتفعت بموجب المنشورين، من الخرطوم إلى شندي إلى (40) جنيهاً بدلاً من (32) جنيها، ومن الخرطوم إلى عطبرة (70) جنيها بدلاً من (55) جنيها للبصات، ومن الخرطوم إلى بورتسودان (180) جنيها بدلا من (154) جنيها، وكشف عن مطالبة أصحاب البصات السفرية بأن تكون الزيادة (32%) بدلاً من (25%) لكنه أكد رفض غرفة النقل القومية لطلبهم.
ويقول المتحدث الرسمي باسم الحزب الشيوعي السوداني المعارض، يوسف حسين، (ما يحدث من تردي في الخدمات كافة يمثل انهياراً تاماً، وأن الحكومة الآن غير قادرة على تأمين خدمات المواطنين)، ويضيف (واضح أن الحكومة لا تملك أموالاً لصرفها على خدمات المواطنين وهذا بالقطع سيؤدي إلى إنفجار الأوضاع)، ومشيراً إلى أن الحكومة ومنذ فترة ظلت تعتمد على الدعم الخارجي من خلال القروض والهبات، ويقول ان القوى الخارجية التي تدعم الحكومة لديها مصلحة فيما تقدمه من دعم ومتى ما استنفدت غرضها ستنفض يدها في وقت تكون قد دمرت البنية الاقتصادية المنتجة بالكامل في البلاد.
ويقول المواطن، عبد الجبار أحمد لــ(عاين)، إن الحكومة فشلت في توفير الكهرباء والمياه كسلع ضرورية للحياة، وتحاول فرض زيادة أخرى في تعرفة المواصلات. وعدَّها سياسات ظالمة تقع على رأس المواطن البسيط، موضحاً أن الخيار المطروح يتمثل في النزول إلى الشارع رفضاً للزيادات المتكررة، وأوضح أن الكهرباء والمياه غير موجودة أصلاً، كما أن المواصلات شبه معدومة.
ويرى المحلل السياسي، عبد الله آدم خاطر، لــ(عاين) إن الاحتجاجات المتكررة من قبل المواطنين على تردي الخدمات سيقود حتماً إلى التظاهر العنيف في الشوارع ما يفضي في نهاية المطاف إلى تغيير النظام الحاكم، موضحاً أن الحكومة غير جادة في إيجاد الحلول للأزمات المرتبطة بالمواطن، وتحاول بيع الوهم بأن سد مروي يكفي حاجة البلاد من الإمداد الكهربائي، مشيراً إلى إرتفاع درجة الوعي لدى المواطن البسيط مما يغلق الباب على ما أسماه “استبهال” السياسيين ومحاولاتهم البائسة لتخدير المواطنين.