الكواليب: فن من أجل السلام والعدالة
رغم أهوال الحرب المستمرة لأكثر من ثلاثين عاما وما خلفته من آثار نفسية واجتماعية مدمرة على انسان جنوب كردفان، ما يزال أبناء جبال النوبة وبناتها يتمسكون ليس فقط بحقهم في الحياة بل بحقهم في الفنون والرقص والموسيقى والغناء من أجل فرض واقع أكثر إنسانية وعدلا.
وتغنا عدد غير قليل من أبناء وبنات الكواليب بجنوب كردفان بالسلام والحرية والعدالة الاجتماعية المفقودة في منطقتهم منذ عشرات السنين ومثلوا جسرا وجدانيا بين مشاعر الغبن الاجتماعي لدى إنسان المنطقة وعشقه للفنون المرتبطة بالتراث المرتبط بالارض والحب والخير والجمال رغم فظاعة الحرب وقسوة الفقر.
وظهر فنانون كبار في منطقة الكواليب أمثال عباس كابتن ونعيمة أبيض وسامية ثقافة، عبروا عن امال ومشاعر انسان المنطقة بمسئولية فنية واخلاقية رفيعة، لكن كل ذلك لم يستطع حملهم على أكتاف المساواة والتنافس الشريف إلى اذاعة أمدرمان حيث يتشكل خداعا ما يعرف ب “الفن السوداني” أو “الغناء السوداني”، ممثلا لطيف معلوم من احتكار صورة القومية عند ثقافة بعينها.
عالم النسيان الذي ضرب حول مآثر هؤلاء الفنية والانسانية لم يأت محض صدفة بل وراءه الكثير من أسباب وجذور الحروب التي وقف ضدها فنانوا الكواليب وأصبحوا رمزا للمقاومة الفنية الصامدة عبر السنين.
“99 جبل”
تشتهر منطقة جنوب كردفان ” جبال النوبة” بالتنوع الثقافي، فُعرفت ضمنياً بمنطقة الـ”99 جبل” وهي مناطق تقطنها اثنيات مختلفة؛ لكل منها لون حياة مختلف عن الاخرى من حيث اللغة، الفن، وطبيعة الحياة حسب اختلاف أنماط الحياة التي تتوزع بين النمط الرعوي أو الزراعي.
تُعتبر ثقافات تجمعات النوبة السكانية من الحضارات القديمة بقدم تاريخ المجموعات السكانية المختلفة في السودان. وتنقسم التجمعات الاثنية النوبية الى مجموعات لغوية. مجموعة الَتقلي ومجموعة الاما ومجموعة الأجانق.مجموعة كادوقلي وأخريات. تعتبر الكواليب إحدى أهم الثقافات المُشكلة لبنية المنطقة الثقافية وهي الفن عن مجموعة الكواليب التي تعد أكبر المجموعات بالمنطقة الشرقية لجبال النوبة وتضم مورو- هيبان – اتورو- وتيرا- وليرا- ام حيطان- الهدرة- كاو نارو – فنقر وشاوية
تقطن الكواليب في الجزء الشمالي الغربي لمنطقة جنوب كردفان. ويعتبر الكواليب الفن من أهم عوامل الحفاظ على التراث.
ولكن هنالك مهددات و حملات استئصال موجهة نتيجة الحرب كما يقول خلف الله دينار “نحن مهددون بالانقراض ، ونحن رفعنا السلاح من أجل الحفاظ على هويتنا والعادات والتقاليد بتاعتنا وهو ما يؤكد أن الهوية النوبية هي الأساس خاصة وأن الحكومات المتعافية لها فهم لطمس هويتنا في جبال النوبة بشكل خاص لذلك نحن مطالبين بالحفاظ على الهوية بتاعنا”.
وتعتبر مناطق الكواليب من من أكبر المناطق التي شهدت معارك قتالية إبان الحربين الاولى والحرب الثانية التي مازالت تدور حتى الآن.
اشتهر الكواليب بالفن وخرج منهم أكثر من مطربة ومطربة جلهم باللغة المحلية للكواليب. يعملون على بناء الوعي للأجيال القادمة بغرض المحافظة على تراثه من حملة الاستعراب القسري التي يشنها المركز
للكواليب أشكال مختلفة من الرقص والغناء أبرزها الكرنق والتي تشترك فيها مع بعض المجموعات الاثنية بجنوب كردفان
وعاء ثقافي
يعرف د. انور انجلو الفرق بين الكواليب كمجموعة لغوية و الكواليب كمجموعة اثنية بأن الرابط في المجموعة اللغوية هو اللغة . موضحاً ان هنالك ارتباط طفيف في الثقافات ولكن الاثنية الرابط بينها اجتماعي ثقافي لغوي جغرافي. ويضيف أنجلو “ترتبط الكواليب مع المجموعات التي تنضوي إليها لغوياً في نقاط اشتراك مختلفة، فمثلاً الليرا تكاد لا تفرق بينهم الكواليب في اللغة ولكن بذات القدر الفرق بين الكواليب والمورو كبير فمثلاً الاشتراك في مسميات الأشجار وبعد الأشياء الطفيفة ولكن في ذات الوقت هنالك ترابط لغوي كبير بين التيرا والمورو وهم ينضون تحت مجموعة الكواليب اللغوية“.
ويضيف د. انجلو “امتاز الكواليب بالحيازة على منطقة جغرافية ممتدة من مناطق خور الدليب الى هيبان وهذه المنطقة شهدت تاريخياً أول البعثات التبشيرية؛ فاول كنيسة أنشئت بمنطقة عبري ترجع لعام 1923 وهو ذات التاريخ الذي انشئت فيه أول مدرسة بجبال النوبة هذا الامر اعطى مجموعة الكواليب الاسبقية المعرفية عبر التعليم، وعرف التاريخ اول الاستاذه من الكواليب الاستاذ مكادي والاستاذ مركزو كوكو؛ ومن الكواليب الغوبة الدكتور جمعة كندا”.
مشيرا الى ان التعليم ساهم في بناء الوعي والمدنية عند أفراد الكواليب مما شكل عامل في التفوق الأكاديمي عبر دخولهم للجامعات السودانية ومنهم من حاز على منح دراسية خارج البلاد.
اما في الاطار السياسي فقد شكل التعليم وعياً مبكراً لأفراد هذه لاثنية فجاءات مشاركتهم السياسية منذ زمن بعيد تعود إلى اول برلمان سوداني بعد الاستقلال حيث كان المرحوم حماد ابو صدر الذي ساهم في وضع حدود منطقة الكواليب ، مشاركا في البرلمان الأول في العام 1954. الكواليب ايضاً من الاثنيات ذات الكثافة العديدة الكبيرة في قوات الجيش الشعبي منذ الحرب الأولى فكان من الرعيل الأول الشهيد يونس ابو صدر والقائد يوسف كره من الكواليب الاثنية أما من المجموعة اللغوية فهنالك سايمون كالو نيرون فيليب وغيرهم من القادة البارزين في الجيش الشعبي
فن متكامل
تشتهر الكواليب بالفنون بمختلف مسمياتها من رقص وغناء ومن أشهر فنانيها عباس كابتن المعروف بفنان الجمال كما وصفه الأستاذ الهادي كومي احد مثقفي الكواليب… ويُعرف بأنه من أحد الرموز الفنية للكواليب، موضحاً بأن هناك عدد كبير من الفنانين والفنانات أمثال نعيمة وسامية ثقافة، كما يسترسل الهادي كومي في الحديث حول عباس كابتن قائلا :”اسمه الحقيقي عباس محمد عبدالله واخذا الكبتنية والقيادة بميله للغناء الى الجمال، لذلك سمي بفنان الجمال ، وبدأ كابتن الغناء في سبعينات القرن الماضي وتغني بقضايا مثل أكل وجبة السمك الذي كان يعتبره الكواليب من العيوب الكبيرة للنساء ، أكل السمك ده عندنا فضيحة شديد“.
ويصف كومي أحد مثقفي المنطقة رحلة عباس كابتن قائلاً ” عباس كان قاعد في “ثبات” في قرية اسمها “كجورونا”.
تعرضت المنطقة لكافة أشكال القصف الأرضي والجوي ثم نزحوا من مناطق الأصلية الى الجبلية من أجل الحماية. ويضيف الهادي بأن الموسيقى عند الكواليب تعتبر من الأساسيات في حياة الناس. موضحاً إنها بالنسبة للنوبة عامة تمثل أحد ركائز الحياة ومكوناتها. قائلاً: “كنوبة الموسيقي عندنا مكون من مكونات الحياة ودائماً ما يظهر الفنان الأكثر ابداعاً ، وللموسيقى تأثير كبير على حياتنا” واصفا فن النوبة بالفن المتكامل حيث يقوم الفنان بالعملية الفنية من التأليف والتلحين ثم الأداء.
فن من أجل السلام
من جهتها تقول المطربة سامية “نحن نغنى للتراث وللسلام رغم القصف الجوي الذي ادى الى تشريد كل عناصر النوبة” متحدثة عن مأساة الحرب بالقول “الموت بجي فجاءه، نحن نحث الناس الى الوصول الى السودان الجديد ولو انا بقيت مافي لازم الناس تثبت الى ان ياتي السودان الجديد”.
كانت جبال النوبة قاطبة قد فقدت المطربة نعيمة ابيض بسبب القصف الجوي الذي قطع جسدها الى أشلاء. نعيمة التي تغنت لشحذ الهمم بعد ان نزحت من تحت الجبل وتر آخر وصاياها عبر شبكة عاين قائلة ” أنا لو مافي ما تخسروا أنفسكم وتتركو التراث” ويصف الأستاذ كومي المطربة نعيمة بالنشاط الدؤوب الأمر الذي جعلها عنصر فعال في المجتمع النوباوي. اشتهرت نعيمة بشحذ الهمم وحث الناس على مواصلة النضال وكانت تقول “إذا فارقت روحي الحياة عليكم بالمواصلة الى السودان الجديد”
ويضيف” واصلت نعيمة التي تعتبر من جيل فني جديد في النزوح من منطقتها للاحتماء بالجبال الى فارقت روحها الحياة بالقصف الجوي الذي مزق اجزاء من جسدها وصعدت روحها إلى الحياة الابدية”.