الفساد في السودان ملف لن يغلق : مشروع الجزيرة
١٦يونيو٢٠١٤
كثر الحديث عن الفساد في السودان في الاونة الاخيرة ، وتناولتها الصحف اليومية في الخرطوم بشكل واسع ، مما دفع جهاز الامن والمخابرات باصدار تعميم لكل الصحف بوقف نشر قضايا الفساد وتهديدها بالايقاف في حال النشر ، وبالفعل تم ايقاف صحيفة ( الصيحة ) التي يمكلها الطيب مصطفى خال الرئيس عمر البشير ، الى جانب فتح بلاغات ضد الصحفيين وتفتيش الصحيفة التي تناولت في حلقات قضية امتلاك احد كبار المستشارين في وزارة العدل اكثر من (15 ) قطعة ارض في مناطق مختلفة ، الى جانب تورط مسؤولين كبار في قضايا الفساد التي انتشرت ، بيد ان المراقبين عدوا ان نشر هذه القضايا لفترة كان بسبب صراعات داخل حزب المؤتمر الوطني الحاكم والمتنفذين في السلطة .
و اصبح المواطنون يتحدثون عن استشراء في معظم مؤسسات الدولة الحيوية، ونذكر منها –علي سبيل المثال -الطيران المدني ، شركة سودانير ، القطاع المصرفي وبرنامج الخصخصة الذي قال عنه المراجع العام ان الخزينة العامة للدولة لم تتلقي جنيها واحد من اموال الخصخصة ، حسب افادته في اخر تقرير له امام البرلمان نهاية العام المنقضي 2013م ،
يتناول هذا التقرير قضية الفساد المالي والاداري التي اثيرت في الاعلام والمنابر العامة والبرلمان حول مشروع الجزيرة وقد عبر عنه مسؤول حكومي بذلك “إنّ المشروع آل لحالٍ فُكّكت فيه منشآته الري، وخُرّبت بنياته التحتيه، وحُلّت مؤسساته التنظيمية، وغُيّرت أطره الادارية، وتمت تصفية وحداته الخدمية “
الخصخصة وسياسة التمكين تعصفان بمشروع الجزيرة
لعل الملاحظ في السودان قبل مجيء الانقاذ، ان اقتصاد السوق الحر والمؤسسات الاقتصادية المملوكة للدولة كانت تتمتع بقدر من الاستقلالية بعيدا عن التسييس والحزبية وتغول السلطة التنفيذية، وكان السودان يتمتع بنوع من الاقتصاد المستقر بفضل حيادتية السياسة –علي الاقل بالمقارنة مع الوضع الحالي- في ادارة المشاريع الاقتصادية وحمايتها من السيطرة الكلية لحزب معين او جماعة او فئة دون اخري.
ويقول خبير اقتصادي طلب حجب اسمه لشبكة( عاين ) ان المشكلة الاساسية التي واجهت النظام الذي بدأ عهده بانتهاج سياسة الصالح العام وتشريد الالاف من العاملين في مؤسسات الدولة المختلفة من ذوي الخبرة من الاكفاء والتكنوقراط ، في المشاريع الاقتصادية التي تدر النقد، ومنها مشروع الجزيرة بالطبع، الذي كان خارج سيطرة اعضاء النظام وبالتالي سعوا لبسط هيمنتهم علي مجمل هذه المشاريع بشتي الطرق والوسائل لتحقيق سياسة التمكين.
وفي هذا الصدد يقول المحلل الاقتصادي عادل خلف الله لشبكة ( عاين ) ان اول مؤتمر اقتصادي اقامه النظام بعد وصوله الى السلطة عبر الانقلاب العسكري في يونيو العام 1989 تحدث عن ان الصناعات الصغيرة والمشاريع الزراعية الكبيرة ، ويضيف ( لم تكن هذه المشاريع الكبيرة ضمن ملكية عضوية النظام ولذلك قرروا استيراد وتوريد كل البضائع من الخارج حتي تحارب اعدائها في الداخل وحتي لا يتحكم اصحاب رؤوس الاموال من خارج النظام في اقتصاد السوق ومن ثم يفرضون شروطا علي الحكومة، وليذهب الاقتصاد السوداني الي أي مكان، فقط يجب السيطرة علي السوق مهما تكلف الامر) ، ويضيف خلف الله ان هذا الامر ادي الي تدهور الاقتصاد بشكل غير مسبوق وتراجعت الصناعة الوطنية بعد ان فرضت عليها الضرائب الباهظة من اجل ارهاق اصحاب الاعمال من غير المنتمين الي الحزب الحاكم ، كما ادي هذا ايضا الي اخراج عدد كبير من المصانع والمشاريع الوطنية من دائرة الانتاج منها بلا شك مشروع الجزيرة الذي لخص آخر تقرير حكومي مشكلاته بهذه الكلمات: ( إنّ المشروع آل لحالٍ فُكّكت فيه منشآته للري، وخُرّبت بنياته التحتية ، وحُلّت مؤسساته التنظيمية، وغُيّرت أطره الادارية، وصُفّيت وحداته الخدمية، وضُيّعت نظمه الانتاجية، وشُرّدت كوادره الفنية والهندسية والإدارية ، هذه الحالة جعلته في وضع لا يستطيع فيه الاضطلاع بالمهام المنوطة به في الانتاج والدور المرجو منه في الاقتصاد الوطنى).
والسؤال الذي يقفز الي الذهن لكل من يطالع هذا الاعتراف الصريح والخطير،: من الذي تسبب في هذا الخراب ومن المسؤول عنه؟ اين كانت الجهات الحكومية المناط بها رسم سياسات هذا المشروع الضخم ووضع برامجه والاشراف عليه؟ والاهم من هذا وذاك، هل تقوم الحكومة بعد اعترافها المعلن هذا باجراء محاسبة وتقديم من ارتكب هذه المخالفات للقضاء؟
وفي ذلك يقول النقابي والكاتب الصحفي محمد علي خوجلي لشبكة ( عاين ) ان ترك الامر بدون تحديد من المتسبب في تدهور مشروع الجزيرة والمشاريع التي كانت تدر دخلا علي الاقتصاد السوداني لن يعالج قضية التدهور هذه، بل سيزيد ويفاقم من الوضع ، ويضيف ( فالداء معروف ومن افسد ودمر المشاريع معروف لكن لا توجد محاسبة من أي جهة لاي شخص بل يجد المفسدون الحماية بما انهم يدعمون النظام الحاكم في السودان ) .
يقول المهندس حسن احمد تاج الدين المسؤول عن قطع الغيار بمشروع الجزيرة ومدير الورشة فيه قبل مجيء الانقاذ انه تعرض لعملية تهديد بالفصل من العمل في بواكير الانقاذ ان لم يسمح بدخول ماكينات لسيارات ومحالج غير مطابقة للمواصفات كان من المقرر ان تستوردها شركة يملكها احد منسوبي النظام في اكتوبر من العام 1989 م. ولكن مع ذلك سمحت للشركة باستيراد الماكينات وتم فصل تاج الدين من عمله بسبب اعتراضه علي تلك الصفقة.
وبدأت سياسة النظام تجاه مشروع الجزيرة بسلسلة من الاجراءت منها تصفية مؤسسات مثل الري والهندسة الزراعية بمدني لمصلحة شركات خاصة مثل شركة (روينا) المملوكة لوالي الجزيرة الاسبق الشريف احمد عمر بدر، بالاضافة الي تعيين عدد من اصحاب الولاء من غير المؤهلين في مواقع ادارية بالمشروع، فضلا عن المضاربات في اسعار التقاوى ومدخلات الانتاج التي اثقلت كاهل المواطن والمزاعين في المشروع حتي وصلت الي مرحلة صارت الانتاجية لا تغطي تكاليف الانتاج، الامر الذي افقر عدد كبير من مزارعي المشروع حيث انتهي بعضهم في غياهب السجون .
تشريد الكوادر وبداية عهد الفساد :
ويعتبر الاستاذ بدر الدين الامين خالد وهو احد ابناء ولاية الجزيرة في حديثه لشبكة (عاين ) بان اجازة قانون مشروع الجزيرة لسنة 2005 والذي تبنته الحكومة وتم بموجبه اعفاء ادارة المشروع واعفاء العمال والموظفين من وظائفهم، البداية الفعلية التي ادت الي استشراء الفساد الذي قضي علي المشروع واحاله الي خراب ، ويقول ( بعد ان كان المشروع يدار باكثر من عشرة الالاف عامل الذين تم اعفاءهم اوكلت ادارة المشروع الي 100 موظف اغلبهم من اعضاء الحزب الحاكم وممن كانوا يعملون في وظائف قيادية ) ، ويضيف ( لقد تم تمليكهم كافة ممتلكات المشروع من مستندات ومنازل واراضي وسرايات ومحالج حسب قانون الخصخصة سابق الذكره الى هذه المجموعة ) .
ويقول عدد من العاملين السابقين في المشروع لشبكة( عاين ) ان القانون الجديد اعطي صلاحيات مطلقة للامين العام لنقابة العاملين بالمشروع الذي اشرف علي تصفية المشروع تحت امرته ، ويتساءل المواطنون في مدينة ود مدني بتهكم واستغراب ( كيف تمكن الامين العام الذي كان يعمل في وظيفة كبير السائقين قبل مجئ الانقاذ والذي كان يسكن من حي بركات في منازل عمال المشروع الي حي المنيرة الراقي بوسط المدينة للسكن في فيللا من ثلاثة طوابق وهو العامل البسيط الذي نزل الي المعاش في وظيفة كبير السائقين؟ ) ، ويشير العاملون الى ان ذلك واحدة من اوجه الفساد التي اصبحت مسالة بائنة .
يذكر ان كل من رئيس النقابة وامينها المالي قاما بتغيير سكنهما من حي العمال الى ذلك الحي الراقي ، الامر الذي جعل الاهالي يطلقون عليه “حي نقابة عمال الجزيرة” في سخرية منهم .
كما يتساءل المواطنون عن مصدر الثروة التي هبطت فجاة علي اعضاء النقابة، خاصة وان تقارير المراجع العام تفيد بان عائد ايجار المنازل السكنية المخصصة للمزارعين وعمال المشروع مثلا بلغ ( 43 ) مليون جنيه ، ولم يتم ايداع مبالغ منها الي الخزينة العامة سوي( 10 ) ملايين جنيه ، كذلك تفيد تقارير بان المسؤلين الذين اشرفوا علي عملية بيع وايجار هذه المنازل قد مارسوا الاختلاس وامتلكوا العقارات بوسط السوق الكبير في مدني ، وكذلك الاراضي الاستثمارية في احياءها الراقية، هذا فضلا عن سرقة جهد المزارعين عبر شركة الاقطان التي طالها الفساد في ملفها ,المدير العام عابدين محمد علي ومحي الدين عثمان صاحب قضية ” التاكسي التعاوني ” الشهيرة في فترة الحكم الديموقراطي (1986-1989 ) .
ايضا تشير تقارير اخري للمراجع العام عن تورط كل من وزير الخارجية الحالي علي كرتي والنائب الاول السابق للرئيس علي عثمان محمد طه ووزير المالية الحالي بدر الدين محمود في قضية تجارة اسمنت كانت تدار عبر شركة الاقطان السودانية حسب اخر تقرير للمراجع العام ، الجدير بالذكر ان ملف الفساد في شركة الاقطان السودانية هي واحدة من القضايا التي سمحت فيها السلطات للصحافة في التحقيق فيها ونشر تفاصيلها بلا حدود ، لكنها سرعان ما تراجعت عنه وفرضت حظراً على الصحف من تناولها بسبب ظهور اسماء مسؤولين كبار في القضية.
اثار الفساد علي السلطة الحاكمة في السودان
لايختلف اثنان في ان الفساد ، اثر بشكل كبير على مصداقية الحكومة ورغبتها في التصدي للفساد والمفسدين بسبب غياب الشفافية وعدم القيام باي اجراءات قضائية او توجيه اتهامات مباشرة للمسؤولين الذين وردت اسمائهم في تقارير المراجع العام او في قضايا فساد اخرى كشفت عنها الصحف السودانية قبل ايقاف نشر ملفات الفساد ، كما ان الشارع السوداني بدأ يزداد قناعته بان الفساد المؤسسي والانفاق المعهول علي الحرب الدائرة في جنوب كردفان والنيل الازرق ودارفور هي اسباب جوهرية للانكماش الاقتصادي وارتفاع الاسعار وانهيار المؤسسات الخدمية من تعليم وصحة وغيرهما بعد انسحاب الدولة كليا عن دعم المواطن، لا سيما الشرائح الضعيفة.
ان المظاهرات التي اندلعت في عدد من المدن السودانية في سبتمبر الماضي وقتل فيها اكثر من (250 ) شخص بحسب تقارير المنظمات الدولية ، فانها تعد تعبيراً حقيقياً عن غضب الشعب بسبب فشل الحكومة في ادارة شؤون الدولة ، وعجزها عن توفير الحد الادني لمتطلبات الحياة الكريمة ، وهنا يقول المحلل الاقتصادي عادل خلف الله لشبكة(عاين)” ان الفساد والحديث عنه صار جهراً ، وهذا اعطي الشعب السوداني الجراة لتحدي حكومته، حيث شاهدنا اكبر تجليات هذه الجرأة في هبة سبتمبر” .