السودان: نشر الكتب بمعايير الأمن


شبكة عاين – ٢٦ مايو  ٢٠١٧

دَرجت المصنفات الأدبية على حظر بعض الكتب من النشر في السودان، إذ تختار كتباً محددة ذات صبغة تنويرية سياسية براهن الحال، دون أدنى نظرة لرسالة الكتاب او مجهودات الكاتب، وتغلب الصبغة الأدبية على الكتب محظورة من النشر مع وجود بعض الكتب التي تتناول شئون سياسية واضحة المتن، ككتب فتحي الضو. و لما تعج به الساحة من كتب محظورة وقفت (عاين) على أبرز الكتّاب الذين تمت مصادرة عصارة جهدهم المعرفي، أدبية كانت او سياسية، وكذلك الكتّاب الذين تمت مصادرة كامل أعمالهم دون استثناء، سألناهم عن   الأضرار التي لحقت بهم، وعن  تفاصيل وأحداث  أعقبت حظر كتبهم.

طيش وجهالة


يبتدر الكاتب فتحي الضو قائلا: (لم يٌلحق منع كتبي من النشر ضرراً
على المستوى المعنوي أو المادي، على العكس تماماً، فمعنوياً حلقت روحي في سماء الوطن، وإزدت فخراً واعتزازاً، وأدركت قول السيد “كلمتي لا ترد إليَّ فارغة”)، واضاف:  (لم أتضرر مادياً لأن المال لم يكن هاجسي لأكثر من ثلاثة عقود زمنية في مضمار الصحافة والتأليف، ظللت خلالها أحمل قضية اتشرف بحملها). افتخر الضو بمساهمته التي وصفها بالتواضع (كدين مستحق واجب السداد). وإستطرد : (مثلي لا يجرؤ الناشرون في الخرطوم على نشر مؤلفاته، ولكن يجرؤ النظام الحاكم على منعها من الدخول والتداول بين الناس، لأسباب لا تخفى على فطنة المراقبين، الذين ظلوا يرصدون الانتهاكات الجسيمة للحريات، وعلى رأسها حرية الصحافة والنشر على مدى الثلاثة عقود زمنية. والحقيقة هذا طيش وجهالة من النظام الذي يفعل ذلك في ظل التنامي السريع للتقنية الحديثة، والتي أصبح فيها العالم بأسره عبارة عن (موبايل) محمول في كفة اليد)، وأضاف الضو قائلاً:(بالرغم من قرار المنع، إلا أن كتبي وجدت طريقها للقارئ في داخل السودان، أما الذين يعيشون في الظلام كالخفافيش، الذين يخجلون مما صنعت أيديهم، هم وحدهم من يسلك هذا السلوك المتخلف).

 

كاتب والجمهور

وفي ذات الإطار يقول الروائي عبدالعزيز بركة ساكن صاحب أكثر الأعمال الأدبية  منعاً من النشر في السودان، يقول لـ(عاين) إن الأضرار التي لحقت به بسبب منع إنتاجه الأدبي لاتحصى ولاتعد،  إذ يقول:(على سبيل المثال تضررت من إشانة السمعة، الذي تعرضت له من قبل نظام الإخوان المسلمين، إلحاق الضرر المعنوي بشخصي وأسرتي، بعد أن وُصمت كتابتي بالمُخلة بالذوق العام)، وأردف قائلاً: (الإخلال بالذوق العام يتمثل في إجترار التاريخ السوداني أم حرق القرى وتهجير العزل قسريا؟ الإخلال بالذوق العام يتجسد في إستباحة الأرض بما عليها، مثل ما فعلت القوات الحكومية ومليشياتها بجنوب السودان إبان الحرب التي فصلت الجنوب حيث صارت أسماء الأحياء مرتبطة ببربرية القوات السودانية، مثل أحياء لباس مافي، رجال مافي، أطلع بره، وما إلى ذلك من الأسماء التي أقُتبست من ممارسة الجيش السوداني في جنوب السودان)، وزاد بركة ساكن: (من يعترض على كتابتي التي تحمل بعض العبارات ذات الطابع الجنسي عليه أن يراجع كتب علماء العرب والمسلمين أمثال عمر بن ربيعة، ألف ليلة وليلة، كتاب نواضر الأيك في معرفة النيك  للإمام السيوطي لماذا لم تصنف تلك الكتب بالمُخلة؟ وتمنع كتبي التي لم تحمل معشار سطر من العبارات التي تعتبر خادشة).

ومضى في ذات الإتجاه  الأديب السياسي  فائز الشيخ السليك  موضحاً  أن حظر أعماله ضيقت من فرص النقد والتداول عبر المنابر الأدبية بالسودان، موضحاً إن مصادرة الأعمال الأدبية تمثل حاجزاً بين الكاتب والجمهور،  وأردف بالقول: (المصادرة  تعتبر ضرر بالغ لأي كاتب). 

 

تجربة ونساء

وتمضي في ذات الإتجاه الكاتبة إحسان عبدالعزيز قائلة: (حظر الكتاب يضعف الرسالة ويحجم المنشور نفسه من الوصول إلى الناس). وترى إن إختيارها لإسم روايتها (نساء في مرمى البندقية) يرجع إلى توثيق تجربة النساء اللائي يعملن في ظروف قاسية، ويواجهن صعوبات وعراقيل في سبيل أداء واجبهن تجاه الوطن وتجاه المرأة، تضيف قائلة: (مرمى البندقية مقصود بها الأراضي المحررة بشرق السودان ومناطق النزوح)، موضحة أن الكتاب تناول عبر فصول متعددة وضع المرأة عبر مسيرة التجمع الوطنى الديمقراطى، وكيف تم عزل النساء من موقع صنع القرار خلال هذه المسيرة التي إمتدت إلى عقد ونصف من الزمان، إبتداءاً من العقد ١٩٨٩ حيث بدأ تكوين التجمع بسجن كوبر من قيادات الأحزاب المعتقلين آنذاك، حتى ٢٠٠٥ حيث عاد التجمع الى الداخل وفق إتفاقية القاهرة التي تحولت من إتفاق إلى إفتراق بين فصائل التجمع بفعل النظام، ودق الاسفين الأخير على نعشه منذ السنة الأولى، وطوال هذه السنوات ظل التجمع ذكوريا حتى النخاع،  وأضافت قائلة:(لا أجد أسبابا واضحة  لمصادرة الكتاب، خاصة وأنه يحكى عن تجربة سابقة، وعند إعتقالي فى نهاية سبتمبر ٢٠١٣ مع أحداث الإنتفاضة، تم سؤالي عن الكتاب وبدا لى من حديثهم أنهم يعتبرونه (محفز للنساء على العمل المسلح).. وهذا التفسير غير صحيح ويدل على أنهم لم يقرأوا الكتاب بل حكموا عليه من اسمه فقط.

دلالات ومعاني   

وبالعودة  لفتحي الضو، فهو يرجّع إختيار أسماء كتبه لشرح هوية الكتاب نفسه، ويقول لـ(عاين) كتابي المسمى ببيت العنكبوت أسرار الجهاز السري للحركة الإسلامية السودانية جاء بمحض الصدفة بعد أن قرأت صفات العنكبوت، والتي رأيت فيها تماثلاً فريداً بينه وبين جهاز الأمن الشعبي محور الكتاب، والذين قرأوا صفات هذا الكائن، يعلمون أنه ولغ في الانحطاط لدرجة التقزز، أما الكتاب الذي قبله (الخندق … أسرار دولة الفساد والإستبداد في السودان) فالكتاب معني بالجهاز الآخر أو الجهاز الرسمي كما يقولون عنه، والذي كان مديره العام صلاح قوش آنذاك، والتسمية وردت في وثائقهم، أي من تسمية الجهاز للخطة السرية للتعامل مع المحكمة الجنائية، والكتاب تحدث بالوثائق المتبادلة بين صلاح قوش وأحد كوادر الأمن المكلف بمتابعة هذه العملية.

مشهد و رواية

أما بركة ساكن  فهو يرجّع  إختيار إسم مسيح دارفور لروايته الشهيرة التي فازت بعدة جوائز آخرها كان جائزة سين السويسرية للأداب، يرجّع الإسم إلى معجزة المسيح، ويقول لـ(عاين) : (إصلاح الحال في السودان يحتاج إلى شخصية تتسم بسمات المسيح وهي الشخصية المسالمة العميقة، التي تتسم بالحكمة ومحبة للإنسانية)، موضحاً إنه إستلهم الفكرة من مشهد مؤلم،  يقول بركة ساكن: (أتت فكرة رواية مسيح دارفور من مشهد ظل يتكرر على نظري أيام عديدة، أثناء إقامتي  بدارفور لتدريب قوات اليوناميد حينذاك على بعض قوانين حقوق الإنسان، المشهد الذي اسرني هو مشاهدتي لإحدى النساء كانت تترد على مدرسة (اردى متى) ثم تنصرف باكية بعد مغادرة الطلاب للمدرسة، وحينما سألت عنها عرفت إن إبنها الذي كان في سن طلاب المدرسة قد ذهب بلا عودة وقتله الجنجويد، وكانت تتردد ظناً منها أن طفلها  سيخرج مع طوابير المدرسة ولكن هيهات).

ومن جهته يقول فائز السليك كاتبه (أنا والرئيس … أسرار المرايا وجنون الياسمين) مقتبس من أحداث  تدور بين أحد الدكتاتوريين في بلد ما ومواطن حول فتاة، يسعى كل طرف للفوز بها، ويضيف قائلاً: (تناولت الرواية واقع الإستبداد السياسي والديني عبر أحداث متصاعدة، حيث إستخدمت السلطة الخطاب الديني والتعذيب والسجون لمواجهة المعارضين، كما أشارت إلى جلد الفتيات وإغتصاب الأطفال بواسطة أحد شيوخ تحفيظ القرآن الكريم).

واقع  وتحديات

 نعى فتحي الضو حرية التعبير بالسودان قائلاً :(واقع الحريات في السودان يدعو للأسى. لقد ظل السودان في ظل النظام القائم يسجل حضوراً مبهراً على مدى سنوات، يتزيل فيعا قائمة حرية التعبير مع دول مثل واريتريا وتشاد وأفريقيا الوسطى وسوريا وكوريا الشمالية، كلنا يعلم كيف تفنن النظام في إنتهاك الحريات الصحافية بإبتداع طرق مثيرة للشفقة، مثل الرقابة القبلية، ومن ثم الرقابة البعدية، والإعلان مقابل السُخرة، والأسفار للترويح عن النفس، ثم الأساليب المفضوحة التي لا تجدي معها هذه الوسائل، ويستعاض عنها بالتوقف عن الكتابة)، وأضاف قائلاً:(ولكن لابد للمرء أن يشيد بدور صحافيين ظلوا يقبضون على الجمر و يناضلون بطرقهم الخاصة كلما رأوا كوة في الحائط الصلب، وتتكامل الأدوار مع الصحافيين في الخارج نحو الوصول للغايات النبيلة، وهي إسترداد الحرية والديمقراطية اللتين تحققان للشعب السوداني حقوقه للعيش بكرامة في هذه الحياة).

ومضى في ذات الإتجاه الأديب بركة ساكن مؤكدا إن عملية حرية التعبير في السودان خاضعة للإتجاهات السياسية والقضايا التي يتناولها الكاتب قبل النظر إلى متن النص، فقد يكون النص لا يحتوي على أي فن من فنون الكتابة فيُحظر، وآخر يشكل مدرسة متكاملة  في فنون السرد فيُحظر أيضاً، موضحاً أن الأهواء الذاتية  للمتسلطين بالسلطة تشكل حجر عثرة كبيرة أو معبراً سلس. وإتفق كل من فتحي الضوء وعبدالعزيز بركة ساكن في مناشدة الصحفيين، الكتاب، والمبدعين لمناهضة كافة أشكال قمع حرية التعبير بكتابة ما يرونه، وليس ما يراه الرقيب  بالمصنفات أو الصحف، من أجل  كسر كل الحواجز، ولبناء  أوراق منشورة تنير الرأي العام وتسري الساحة بالمنتج المتكامل.