الخرطوم – جوبا … العودة الي نقطة الصفر
– شبكة عاين – ٢٨ مارس ٢٠١٦ –
“العلاقة بين دولتي السودان وجنوب السودان … هي علاقة ضرار ما أن تبدأ في التحسن يوماً ما حتى تنقلب بالضد في اليوم التالي”، كما وصفها أحد المراقبين، وقد وصلت العلاقات بعد إستقلال جنوب السودان إلى المواجهة العسكرية في العام 2012 قبل أن تكمل جوبا عامها الاول بعد الإستقلال. ولكن إستطاع البلدان من التوصل إلى إتفاق بينهما عُرف بإتفاق “التعاون المشترك” الذي وُقع في سبتمبر 2012 بعد ضغوط إقليمية ودولية على الطرفين، وتشمل قضايا ترسيم الحدود، رسوم عبور نفط جنوب السودان عبر الميناء السوداني، الحريات الأربع، والوضع في ابيي، غير أن تلك الإتفاقية ومنذ توقيعها لم يتم تنفيذها، مما دفع جوبا أن تتهم الخرطوم بانها تعمل على الغاء إتفاقية التعاون المشترك.
فتح وإغلاق الحدود بين السودان وجنوب السودان ومعاملة الجنوبيين كأجانب
قبل اكثر من اسبوع من تهديد حكومة السودان بإغلاق حدودها مع جنوب السودان، وزع ضابط يتبع لدائرة الإعلام في جهاز االامن والمخابرات السوداني خبراً عن اجتماع عقده الامين العام للحركة الشعبية –شمال – ياسر عرمان مع قيادات عسكرية في جوبا، وقد الزم ضابط الجهاز الصحف بنشر الخبر الذي يقول ايضاً إن “الحركة تخطط لشن هجمات على مواقع في جنوب كردفان والنيل الازرق بدعم من دولة الجنوب” ويبدو أن الخرطوم كانت تخطط منذ تلك اللحظة بناء غطاء إعلامي للقرارات التي صدرت من مجلس الوزراء برئاسة الرئيس عمر البشير حيث صادق على قرار معاملة الجنوبيين المقيمين داخل أراضيه بوصفهم أجانب. كما قرّر المجلس التحقق من هوية الجنوبيين المقيمين بالسودان واتخاذ الإجراءات القانونية حيال كل من لا يحمل جواز سفر وتأشيرة دخول رسمية خلال أسبوع إلى تهديد مساعد الرئيس السوداني إبراهيم محمود بإغلاق الحدود مجدداً.
وأكد نائب القائم بأعمال سفارة جنوب السودان بالخرطوم وعضو لجنة التعامل مع آثار قرار الحكومة السودانية القاضي بمعاملة رعايا دولة جنوب السودان كأجانب دينق دينقديت بدء السلطات السودانية بملاحقة مواطني بلاده بالعاصمة السودانية. وبدأت حالة من القلق بعد قرار الخرطوم الاخير، وشهدت الـ(48) ساعة السابقة تصعيداً من جانب الخرطوم في نبرتها تجاه جوبا وإتهامها بمواصلة الدعم للحركات المتمردة السودانية. وكان مساعد الرئيس ابراهيم محمود حامد، قد هدد جنوب السودان بإتخاذ إجراءات تصل لإغلاق الحدود مرة أخرى، حال استمرت جوبا في دعم حركات التمرد في دارفور ومنطقتي جنوب كردفان والنيل الأزرق. وقال محمود، إن لقاء رئيس الآلية الأفريقية الرفيعة ثابو أمبيكي والرئيس عمر البشير الاسبوع الماضي، تطرق لإستمرار دعم جنوب السودان في دعم المعارضة في المنطقتين ودارفور، وتابع: “إذا لم تتوقف دولة الجنوب من دعم التمرد سنضطر لإتخاذ إجراءات تحمي البلاد حتى لو أدى ذلك لإغلاق الحدود مرة أخرى”. وقال “ننتظر تنفيذ اتفاقيات التعاون مع الجنوب الموقعة منذ 2012 حتى لا تكون هناك مشاكل أمنية بين البلدين”.
وكان النظام السوداني قد اغلق حدوده مع جنوب السودان بعيد استقلال الأخير مباشرة ووقف التعاملات التجارية لدرجة أن نائب الرئيس السابق على عثمان محمد طه قد قال بعد معركة هجليج “اضرب لتقتل اي تاجر يعمل على إرسال بضائع إلى دولة جنوب السودان”. وبعدها بدأت سلسلة من الإتهامات المتبادلة بين جوبا والخرطوم بدعم الحركات المتمردة في البلدين حيث قال النظام السوداني إن جوبا تدعم بالسلاح مقاتلي الحركة الشعبية–الشمال، فيما إتهمت جوبا الخرطوم بدعم الحركات المتمردة هنالك بقيادة رياك مشار.
وسبق أن اصدر الرئيس السوداني عمر البشير قراراً في فبراير الماضي يقضي بفتح الحدود بين البلدين بعد إغلاق استمر قرابة اربعة اعوام. ووجه البشير الجهات المختصة بإتخاذ التدابير اللازمة في تنفيذ القرار على ارض الواقع، وقد سبقه رئيس جنوب السودان سلفا كير ميارديت الذي اصدر قراراً بسحب وحدات الجيش الشعبي من الحدود مع دولة السودان والبدء في تطبيع العلاقات بين البلدين.
الازمة الداخلية تفتح المواجهة مع جوبا
ويقول مراقبون إن النظام السوداني كلما تعقدت ازماته الداخلية بسبب فشله في تنفيذ وعوده بانهاء النزاع المسلح في دارفور وجنوب كردفان والنيل الازرق إلى جانب فشله في عملية الحوار الوطني الذي قاطعته غالب القوى الرئيسة المعارضة. لذلك لجأ النظام للتصعيد مع حكومة جنوب السودان التي تعمل على ترتيب نفسها في تنفيذ اتفاقية السلام الهش مع المعارضة بقيادة رياك مشار رغم التعثر الذي يواجه تنفيذ الاتفاقية.
ويقول المحلل السياسي ادريس مختار لـ(عاين) إن الخرطوم بصرفها الانظار عن أزماتها الداخلية تقوم بفتح جبهة مع جوبا، ويضيف (لكن هذا يضرب بمصالح البلدين والمواطنين بصفة خاصة). ويرى أن على البلدين تنفيذ إتفاقية التعاون المشترك بين البلدين والتي تم توقيعها في سبتمبر 2012، ويضيف أن الحكومة السودانية تعتقد أن قيادات في حكومة جنوب السودان ما زالت تدعم الحركات المتمردة ضد الخرطوم. وكانت هناك تسريبات التي نشرت في صحف الخرطوم بداية مارس الجاري عن لقاء بين وزير دفاع الجنوب بالأمين العام للحركة ياسر عرمان، ويعتقد مختار أن ازمة الثقة بين البلدين تجعل العلاقات هشة وقابلة للكسر عند كل منعطف سياسي. وهذه القرارات ستصعب من أوضاع المواطنين في البلدين وقد تصل إلى مرحلة المواجهات العسكرية كما حدثت من قبل في المعارك التي دارت بينهما في ابيي قبيل استقلال جنوب السودان في مايو 2012، وفي هجليج في ابريل 2012 بعيد الاستقلال.
مبعوث من سلفا كير إلى البشير
وقد عبرت دولة جنوب السودان عن استغرابها لتهديد الحكومة السودانية باغلاق الحدود المشتركة بين البلدين، وأعلنت عن إرساله مبعوثاً خاصاً إلى السودان في الايام القادمة، إلى جانب أن كير سيجري إتصالاً هاتفياً مع نظيره عمر البشير في وقت قريب. وجددت جوبا نفيها في دعم لحركات التمرد ضد الخرطوم رداً على إتهامات الاخيرة لها بالاستمرار في دعم الحركات المسلحة التي تحارب في دارفور والحركة الشعبية التي تقاتل في منطقتي النيل الازرق وجنوب كردفان. واكدت في ذات الوقت انها سحبت قواتها مسافة (5) أميال جنوب حدود (1956) الفاصلة بين الدولتين ومنذ اصدار الرئيس كير التعليمات في فبراير (شباط) الماضي.
ووصف وزير الإعلام والبث والناطق الرسمي بأسم حكومة جنوب السودان مايكل مكوي في حديثه لـ(عاين) إجراءات الخرطوم الأخيرة ضد بلاده “محاولة تغطية على الدعم الذي تقدمه لمتمردي جنوب السودان بزعامة ريك مشار”. وشدد على أن اتهامات الحكومة السودانية ضد جوبا لا اساس لها من الصحة.
واللاجئون من جنوب السودان في الاراضي السودانية يقدر عددهم بأكثر من (200) ألف، والذين فروا شمالاً عند إندلاع النزاع المسلح في أحدث دولة في العالم، وقد أمر البشير وقتها معاملة اللاجئين الجنوبيين كمواطنين يتمتعون بكافة الخدمات والا تتم معاملتهم كلاجئين، على عكس قرار سابق عندما هددت الخرطوم بعدم علاج الجنوبيين في مستشفيتها إذا ما اختاروا الانفصال.
ويقول المحاضر السابق في جامعة جوبا الدكتور لوكا بيونق دينق لـ (عاين) إن عقلية إضعاف جنوب السودان ما زالت مسيطرة على الحكومة السودانية، دون مراعاة للروابط الإجتماعية، الثقافية والاقتصادية، التي لا فكاك منها طالما ان البلدين متجاورين، واصفاً قرارات الخرطوم بالمتناقضة وإنها ستلقي باعباء مالية وإستراتيجية على البلدين ودول الجوار. ويضيف (الجميع أصبح يدفع فاتورة التوتر بين السودان وجنوب السودان والتوتر الأخير قد ينجم عنه حرب إقليمية في المستقبل إذا لم يتم تداركه بالسرعة وإيقافه).
السودان وجنوب السودان أكثر من (86) مليار دولار بسبب إغلاق الحدود
وكان وزير الخارجية السوداني إبراهيم غندور قد قال إن بلاده خسرت (7) مليار دولار بسبب إغلاق الحدود مع جنوب السودان، غير أن بيونق كشف عن أن حجم الخسائر أكبر مما هو متداول – حسب دراسة اجراها مركز السلام في جامعة جوبا. ويقول (بسبب إغلاق الحدود ومنع انسياب البضائع والتبادل التجاري اضافة للحرب فإن السودان خسر “28” مليار دولار في فترة الأربع سنوات الماضية. بينما خسر جنوب السودان “58” مليار دولار. فيما خسرت دول الجوار الإقليمي مبلغ “31 ” مليار دولار). ويضيف (اما الامم المتحدة فقد خسرت مبلغ “57” مليون دولار، وهذه الخسائر لم تشمل التبادل التجاري البسيط التي دفع ثمنها السودان واستفادت منها أوغندا بعد ان اتجه الجنوب لإستيراد السلع من سوق كمبالا).
ويرى بيونق أن الأثر المباشر في استمرار التوتر سيدفع ثمنه الرعاة الذين كانت تحدهم حدود لا يستطيعون تجاوزها، وقد انعكس ذلك بشكل واضح على قبيلتي المسيرية ذات الاصول العربية والدينكا في ابيي وهما قبيلتان تجمعهما حدوداً مشتركة. ويقول إن من حق الشعوب الإستقرار والتعايش فيما بينهما خاصة تلك التي على الحدود المشتركة والتي تجمع أكثر من (8) مليون نسمة على جانبي الحدود وهي الأطول في المنطقة حيث أنها تتجاوز (2) الف كلم.
انتهازية في العلاقة لأسباب إقتصادية
ويرى بيونق أن من حق هذه الشعوب ممارسة حياتها بشكل طبيعي، دون الإنقياد وراء المؤاثرات السياسية، وتابع (ليس من مصلحة السودان اقتصادياً تعطيل إتفاق فتح الحدود واتحاذ قرار إنفرادي سينعكس سلباً خاصة في ظل التردي الاقتصادي الذي تشهده الخرطوم). ويشير إلى أن تحسين علاقات البلدين سيتيح للسودان الاستفادة من بند الدعم المدفوع على سعر برميل البترول والذي تم تقديره بـ (9) دولار، ورسوم عبور البرميل (15) دولار إلى بورتسودان.
من جهته وصف النائب البرلماني في جنوب السودان دينق قوج حكومة الخرطوم بالانتهازية، ويقول لـ(عاين) إن السودان ظل يتعامل مع جنوب السودان بحسب الحوجة الاقتصادية عندما يضيق حاله فإنه يقرر فتح الحدود، وعندما يشعر ان هناك انفراج مالي عربي قادم فإنه يتخذ قرارات غير مدروسة العواقب بإغلاق الحدود، كما فعل ذلك مع فتح وإغلاق أنابيب النفط، ويرى أن الحصار الإقتصادي على السودان بلغ مداه، وأن الخرطوم أصبحت غير قادرة على تجاوز الضائقة الاقتصادية. ويضيف (لن يتحسن الوضع الاقتصادي في السودان إلا من خلال تحسين العلاقات مع جنوب السودان). ويشير إلى أن انسياب النفط سيُضمن للخرطوم استمرار محطة (ام دباكر في كوستي) وحقل (الجيلي)، وشراء النفط بالسعر المحلي وليس العالمي. وتنازل الجنوب عن تعرفة سعر الترحيل ويتم ضخ 28 الف برميل يومياً، والنقاش حول الرسوم البالغ سعرها 15 دولار للبرميل، ويقول (لكن العقلية التأمرية التي تسيطر على من يديرون أمر السودان اصبحت هي المسيطرة خاصة بعد قرار الرئيس البشير).