وفيات قيادات الإسلاميين في ظروف غامضة …. صُدف عابرة أم ممارسة ممنهجة؟

وفيات قيادات الإسلاميين في ظروف غامضة …. صُدف عابرة أم ممارسة ممنهجة؟
عكاشة محمد احمد في اليسار – من موقع صحيفة التغيير الالكترونية

في ظل الأزمة الوطنية الطاحنة وتسائلات متزايدة في شأن الفساد المالي، هل بدأت الحقبة الحاكمة في تصفية صغار المفسدين لضرب عصفورين بحجر: تفاديا لتسريب معلومات عن قضايا فساد اكبر واعطاء مظهر الحكومة الرادعة للفساد؟ 

أخذت ظاهرة وفيات الأشخاص – أو منسوبي الحزب الحاكم ودوائره الاقتصادية والسياسية والامنية – من المرتبطين بقضايا فساد طابعا اكثر تنظيما في الاونة الاخيرة وتحديدا عقب تصريحات رئيس الجمهورية بالقضاء على “القطط السمان”. وكذلك إصدار الدولة تشريعات ولوائح غير دستورية تصل فيها توصم فيها الاتجار بالعملة الصعبة بالتهمة التي تصل عقوبتها حد الإعدام.

ومثلت لحظة إعلان الحرب على القطط السمان، إيذانا ببدء حرب مصالح ونفوذ سياسية واقتصادية عنيفة صاحبتها قوانين واجراءات ادارية قاسية للسيطرة على السوق، مقرونة بحملات اعتقالات ومضايقات واسعة لم تقف هذه المرة عند تجار السوق السوداء بل طالت أبناء الحركة الاسلامية (القطط السمان) في حرب ما يزال أوراها مشتعلا، ما يزال بعض ضحاياها يتساقطون واحدا تلو الآخر.

سقوط الايدلوجيا وإعلاء المصالح

ويعتقد مراقبون أن تنامي الظاهرة يظهر عدة حقائق أولها حدة صراع القوى والنفوذ داخل المجموعات المنقسمة في الحزب الحاكم والحركة الاسلامية التي دفعتها الضغوط الخارجية العديدة والأزمات الداخلية الخانقة للتفكير في السيطرة على مفاصل السلطة السياسية والاقتصادية وسط محاولات مستميتة من الرئيس البشير ومجموعته لاستخدام كافة وسائل العنف من أجل السيطرة على مقاليد الأمور.

ويعتقد هؤلاء أن الصراع حول السلطة والنفوذ أخذ شكلا أكثر وضوحا وعنفا على المستوى الاقتصادي إذ تم نقل الصراع السياسي إلى السوق للسيطرة عليه أو إشعال البلاد من قبل الأطراف المختلفة.

ونسبة لإهدار جوانب المحاسبية والشفافية وحكم القانون في البلاد لسنوات طويلة جراء سياسة التمكين التي اتبعها الاسلاميون منذ مجيئهم للسلطة في يونيو 1989 فقد برزت وبصورة منظمة مجموعات سيطرة بصورة سريعة على السوق، ما لبثت أن تحولت الطفيلية اقتصادية تتدثر فقط بشعارات الحزب الحاكم حماية لمصالحها، فيما يرى البعض أن هذه المجموعات اصبحت تسيطر بصورة أو بأخري على مفاصل كثيرة في النظام وتتحالف مع بعضها لحماية أنفسها عن طريق منع سقوط النظام ودعم تحولاته الشكلية من حقبة لأخرى حسب المقتضيات السياسية.

ويذهب محللون إلى أن سقوط ايدلوجيا النظام الدينية وتخليه عنها وتحوله لمجموعة مصالح تحمي نفوذها دون سقف أو أرضية أيديولوجية محددة، اذ تهاوت تلك الاخيرة منذ مفاصلة الاسلاميين وطردهم للترابي في العام 1999.

غسان وعكاشة

كان أول فضائح الفساد التي يرجح فيها التخلص من الافراد لاعدام الادلة والمعلومات التي يملكها الشاب غسان مدير مكتب والي الخرطوم السابق عبدالرحمن الخضر، الذي توفي في حادث حركة يتصف بالريب. وثانيهم عكاشة الذي تدرج في العمل داخل حقب الحركة الاسلامية الوطنية منذ أن كان طالباً حيث مثل حزبه (المؤتمر الوطني الحاكم) في إحدى دورات اتحاد طلاب جامعة الخرطوم كامينا للمال. ثم فضل الاتجاه الى العمل الاستثماري ولكن داخل أروقة المؤتمر الوطني متنقلاً بين الشركات من (سيدكو) الى (سين للغلال) ومن بعدها (مطاحن قنا) التي تبعد عن المؤتمر الوطني.

عكاشة الذي وجد مقتولاً داخل معتقل جهاز الأمن داخل زنزانته. حالة الذهول التي استقبلت بها اسرة المعتقل لدى جهاز الأمن عكاشة محمد احمد، نبأ وفاته داخل المعتقل اعادت الى ذاكرة الكثيرين حوادث التصفيات التي نفذها نظام الحكم القائم بحق نافذين خاصة بعد الرواية التي أعلنها جهاز الأمن بأن عكاشة مات منتحرا داخل زنزانته بمعتقلات القريبة من موقف شندي في الخرطوم بحري مساء الخميس 17\ 5 بعد أسابيع من اعتقاله.

واعتقل “عكاشة” الى جانب آخرين ضمن حملة حكومية ضد من سمتهم بـ“القطط السمان” وهي مجموعات متنفذة داخل الحكومة تضارب في تجارة العملة وتسيطر على مكامن اقتصادية مهمة في البلاد أطلق سراح بعضهم ولا زال آخرين منهم داخل زنازين الأمن دون ان يقدموا الى محاكمات رغم مضي الفترة القانونية لاعتقالهم.

أبناء التنظيم السري

رواية جهاز الأمن بإنتحار “عكاشة” داخل زنزانته ظلت محل شك في اوساط السودانين خاصة افراد عائلته التي لزمت الصمت وتمنع أفرادها عن الحديث حول الحادثة وبين طيات تمنعهم هذا يستشف حديث كثيف ربما لم يحن وقت البوح به. وحاولت عاين الحديث الى زوجة عكاشة التي ابدت موافقتها للإدلاء برأي الاسرة ، لكنها سرعان ما رفضت الحديث. بحجة أن هنالك جهات ترصد هاتفها الجوال.

و”عكاشة” التي تقول سيرته الذاتية المبذولة، انه احد ابناء التنظيم السري للإسلاميين الحاكمين، وأحد الذين يديرون منذ وقت عجلة اقتصاديات الحزب الحاكم في اطار سيطرته الكلية على اقتصاد البلاد واحكام قبضته على الدولة. ومنذ صباه ونهاية دراسته الجامعية وهو ابن تنظيم الإسلاميين التحق بعدة شركات بينها شركة سيدكو و سين للغلال الى ان مثّل الساعد الأيمن لرجل الأعمال الأشهر محمود الخطيب في إنشاء شركة قنا للغلال قبل أن يعتقلا معاً ويفارق “عكاشة” الحياة في معتقله.

تساؤلات

ما أدلي به جهاز الأمن حول انتحار عكاشة داخل معتقلاته وأنه يواجه بلاغات تحت مواد محددة من القانون الجنائي وغسيل الاموال وغيرها، يفتح سؤالا اخرا حول السبب الحقيقي لابقاء عكاشة في زنازين جهاز الأمن رغم انه قد القي القبض عليه في قضية فساد.

يقول المحامي شوقي يعقوب، انه لا يوجد مبرر قانوني لإبقاء “عكاشة” داخل معتقلات الجهاز، مشيرا الى ان الاجراء القانوني السليم والمعروف في مثل هذه الحالات أن يتم تسليم المتهم الى الشرطة بمجرد فتح البلاغات ويبقى في حراستها لجهة ان جهاز الأمن تحول هنا الى شاكي.

ويقول “بحسب ما افاد الأمن بان عكاشة دونت ضده بلاغات وعليه كان يفترض ان يحول الى النيابة ويكون تحت حراسة الشرطة ولا يوجد مبرر قانوني يجعله باقيا داخل حراسات الأمن“.

ومع هذا القول القانون الواضح، تبقى أسئلة عديدة عالقة كان قد دفع بها الكاتب الصحفي محمد وداعة اجابتها تفرقت بين عددين منها لماذا انتحر عكاشة وفقا لرواية الأمن، وكيف تمكن من ذلك؟ وهل تمكن معتقلات الأمن اي شخص من الاقدام على الانتحار ومتى شوهد حياً لآخر مرة؟ وهل بدأ عليه الإكتئاب او اي اعراض مرضية تدفعه للإنتحار؟ وكيف كان يعامل من قبل جهاز الأمن؟ وهل مورس عليه أي نوع من أنواع التعذيب؟ هل حدث تقصير أو تهاون في إجراءات الحبس سهل للمتوفي الانتحار، و لماذا ظل فى زنازين الجهاز بعد عرضه على النيابة وتسجيله اعترافا قضائيا؟ – وفقا لما ذكر الأمن في بيانه.

أحد أبرز ابناء التنظيم الاسلامي وهو دكتور حسن السماني الجيلي المعروف بأبي دجانة أمير المجاهدين ورئيس حزب الإصلاح القومي نفي بشكل قاطع صحة مزاعم المخابرات بأن عكاشة محمد أحمد المتهم قد انتحر داخل زنازينهم. وقال أن”الزنازين لا تتوفر فيها وسائل انتحار“.

انتهاك للقانون

القوانين التي تنظم الاعتقال واضحة وقانون الأمن الوطني يحدد ثلاثة أشهر للاعتقال ويتم التجديد حتى يتم الاستيثاق من التحقيقات، لكن بعد فوات المدة القانون يلزم الجهاز تحويل المتهم إلى المحاكمة او اطلاق سراحه“. وفق ما قال المحامي شوقي يعقوب لـ(عاين). ويتابع يعقوب”في حال انتهاء المدة ولم يقدم المتهم للمحاكمة او يتم اطلاق سراحه فهذا ضرر يستوجب رفع دعوى طعن دستوري وهناك سابقة وحيدة قام بها المحامي بارود صندل وصدر فيه قرار من الدستورية بأن جهاز الامن لا يحق احتجاز شخص متجاوزا المدة“.

ويرى يعقوب، أن تجاوز المدة بالنسبة للمعتقلين هو انتهاك ومخالفة صريحة للقانون والدستور، ويضيف “من حق أي شخص أن يقدم إلى محاكمة عادلة أمام جهة قضائية وتتاح له كل فرص المحاكمة العادلة”. ويزيد “خلاف ذلك اي اعتقال بدون بلاغ فهو احتجاز غير مشروع”.

كبش فداء

من جانبه يقول المحامي، حاتم الياس، إن الحملة الراهنة على ما أطلق عليه مصطلح القطط السمان تشهد تجاوزات قانونية خطيرة فى حق من طالتهم هذه الاتهامات وصلت الى درجة اتهام الجهات الرسمية باتباع أقسى الوسائل فى مواجهة من طالتهم هذه الاتهامات وهى دون شك تفتقد لمعايير المحاكمات العادلة والعلنية وحتى في إجراءات القبض والتحفظ.

ويزيد اليأس “حتى أن الجهاز القضائى الذي يفترض أن يكون حاميا وحارسا للقانون وتطبيق العدالة أتجه تحت ضغط الدعاية والتوجيه الحكومي لإنشاء محكمة خاصة للفساد وهو منحى تهديدا أكثر من كونه محكمة تتماشى مع الإرث التاريخي للقضاء السوداني“.

أعتقد أن القضائية ورغم أن تأسيس المحاكم الخاصة ليس جديدا فى النظم القانونية لكن النظم القانونية المحترمة غالباً ما تتجنب أنشاء مثل هذه المحاكم الخاصة والتى تعبر عن خلل فى النظام القضائى طالما أن المحاكم الطبيعية الأخرى والنظم التشريعية والقانونية قادرة الفصل فى كل القضايا فساد أو غيرها بكفاءة واقتدار” .وفق حديث الياس لـ(عاين) والذي يشير فيه ايضا الى ان الدول الأفريقية حين تحاصر الأزمات الحكومات غالباً ما تلجأ لهذه الإجراءات بغرض إرضاء الرأي العام وتخفيف الغضب وغالبا مايكون المتهمين هم أشخاص من الحكومة نفسها يتم التضحية بهم لهذا الغرض.

وبما أن الحملة الحكومة انطلقت لمكافحة الفساد، يقول حاتم الياس، ان محاربة الفساد لا يمكن أن تتم على هذا النمط الذي وصفه بالنمط المافوي وإنما أول متطلبات مكافحة الفساد هي إقرار الحق الكامل للمحاكم والنظام القضائي في البلاد بأن يكون هو الفصل بشفافية كاملة وعلنية فى نظام جلسات المحاكم وتوفير المحامين للدفاع عن المتهمين أو تمكين محاميهم لمقابلتهم والدفاع عنهم.

ويضيف “هذا هو الطريق لمكافحة الفساد أى طريق القانون ومعايير المحاكمات العادلة..محاربة الفساد لا يمكن أن تتم بهذا النمط المافوي السري“.

تصفيات وشكوك

وشهدت السنوات الماضية تضارب مصالح قادة الحكومة، وطفت على السطح مصطلحات التحلل. حتى وصل إلى الامر حادثة الوفاة غريبة الأطوار والتي راح ضحيتها مدير مكتب والي الخرطوم السابق الملازم أول غسان الذي كان يمسك بقضية فساد مكتب والي الخرطوم الاسبق عبد الرحمن الخضر. وقد تم شطب البلاغ مباشرة بعد حادث حركة توفى على أثره غسان عبد الرحمن مدير مكتب الوالي السابق.

الا ان القيادي الإسلامي أبو دجانة يلمح إلى اعتماد التنظيم السري للحركة الاسلامية في السودان أسلوب الاغتيالات لإعدام الادلة بصورة ممنهجة إذ لم تجاوزت قضايا الفساد للارتباط بقضايا سياسية وأمنية عديدة. وشكك ابودجانه بصحة وفاة عدد من قيادات الإسلاميين في حوادث طيران أو سيارات، بل ورجح تصفيتهم بقرارات من قبل القيادة مثل النائب الاول السابق لرئيس الجمهورية الزبير محمد صالح وغيرهم.

وما يزال كثير من السودانيين يتشككون في صحة مزاعم وفاة المقدم إبراهيم شمس الدين عضو مجلس قيادة ثورة الإنقاذ الذي أعلنت وفاته في حادثة سقوط طائرة في جنوب السودان، ومجذوب الخليفة أحد كبارة قادة النظام والحركة الاسلامية السودانية الذي أعلنت وفاته في حادث سيارة بطريق الولاية الشمالية وغيرهم، اضافة للصحافي الإسلامي محمد طه محمد أحمد الذي وجد مذبوحا في أحد ضواحي الخرطوم.

وتشير تقارير مختلفة، منها ما أورده الصحافي فتحي الضو في كتابه الخندق بشأن تعمد جهاز المخابرات السوداني تصفية كل الكوادر ذات العلاقة بمحاولة اغتيال الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك في أديس أبابا في العام 1995، رغبة في اخفاء الادلة والمعلومات التي تشير إلى تورط النظام السوداني في محاولة الاغتيال الفاشلة بمشاركة تنظيم الإخوان المسلمين المصري وتنسيق التنظيم الدولي.

ويرى الضو أن التصفية الجسدية من أجل اخفاء الادلة والمعلومات والتضحية بأبناء التنظيم أصبحت ظاهرة منظمة لتنظيم الحركة الاسلامية السودانية، ولم يقف الامر عند هذا الحد بل ان زعيم الحركة الاسلامية التاريخي حسن الترابي أشار للأمر في أكثر من مناسبة آخرها لقاؤه المطول لقناة الجزيرة قبل عامين.