هجوم امني شرس على الواقع السياسي والاعلامي والثقافي في السودان
٣٠ يناير ٢٠١٥
بدأ المشهد السياسي السوداني هذا العام بجملة من الاجراءات المتشددة التي قامت بها السلطات الامنية، بدءاً بطلب تقدم به جهاز الامن والمخابرات الى مجلس شؤون الاحزاب بتجميد نشاط حزب الامة القومي والمطالبة بملاحقة رئيس الحزب الصادق المهدي ورئيس حركة تحرير السودان مني اركو مناوي عبر البوليس الدولي (الانتربول)، الى جانب اغلاق مركز محمود محمد طه، اضافة الى عدد من البلاغات ضد الصحفيين بعض موادها تصل عقوباتها للاعدام كما في حالة مديحة عبد الله رئيسة تحرير صحيفة (الميدان) التابعة للحزب الشيوعي السوداني، وذات الشئ يواجه الصحفي محفوظ بشرى، وعادت الرقابة الامنية للصحف من جديد الى جانب مصادرة بعضها بعد طباعتها من المطابع، وكان آخر اجراء اتخذته الحكومة في حملتها التي وصفت بالشرسة هو اغلاق اتحاد الكتاب االسودانيين.
واعتزمت السلطات السودانية الشروع في اجراءات قانونية في مواجهة زعيم حزب الامة القومي الصادق المهدي، ورئيس حركة تحرير السودان، مني اركو مناوي تشمل تعميم مذكرات توفيق بواسطة الشرطة الدولية، غير ان وزير العدل محمد بشارة دوسة نفى تقدم وزارته مذكرة للانتربول لملاحقة وتوفيق المهدي ومناوي.
وكان طلب جهاز الامن حل وتجميد الحزب بسبب توقيعه (نداء السودان) مع الجبهة الثورية، وقد اتهم الرئيس السوداني الموساد الاسرائيلي والاستخبارات الامريكية بانهما وراء اعلان (نداء السودان)، ومايزال رئيس قوي الاجماع الوطني الاستاذ فاروق ابو عيسى، وامين مكي مدني، وفرح العقار وعدد آخر من المعتقلين السياسيين، رغم ان البشير قد اعلن قرب اطلاق سراح ابوعيسى رئيس هيئة قوى الاجماع الوطني الذي يضم عدد من احزاب المعارضة وامين مكي مدني رئيس كونفدرالية تحالف منظمات المجتمع المدني، غير ان ذلك القرار لم يتم تنفيذه.
ايقاف نشاط اتحاد الكتاب السودانيين
وفي التاسع والعشرين من يناير الغت وزارة الثقافة السودانية وفق خطاب رسمي تسجيل اتحاد الكتاب السودانيين في خطوة وصفت بانها تصعيد مضاعف تتبناه السلطات في مواجهة المراكز الثقافية المحسوبة على المعارضة، ويقول الامين العام للاتحاد عثمان شنقر انه تسلم خطابا من مسؤولة التسجيل التابعة لوزارة الثقافة يفيد بالغاء تسجيل الاتحاد، ما يعني وقف نشاطه واغلاقه، واشار الى ان الخطاب الذي تسلمه علل اغلاق الاتحاد بممارسة انشطة تخالف احكام قانون تنظيم نشاط الجماعات الثقافية القومية، ونظام الاتحاد الاساسي.
صحفيون يواجهون الاعدام
وقد حققت نيابة الجرائم الموجهة ضد الدولة يوم الاربعاء في الرابع عشر من يناير الحالي مع رئيسة تحرير صحيفة (الميدان) مديحة عبدالله، وجاء التحقيق بناءا على بلاغ نشر تحت الرقم (60)، الشاكي فيه جهاز الامن، وفتح في مواجهتها بلاغا تحت اربع مواد من القانون الجنائي هي المادة (21) الاشتراك تنفيذا لاتفاق جنائي، المادة (50) تقويض النظام الدستوري، والمادة (63) الدعوة لمعارضة السلطة العامة بالعنف او القوة الجنائية، والمادة (24) من قانون الصحافة والمطبوعات التي تقع تحت مسؤولية رئيس التحرير.
وفي ذات السياق مثل الصحفي في صحيفة (الميدان) ابراهيم ميرغني، والكاتب الصحفي سليمان حامد امام محكمة الملكية الفكرية بالخرطوم في العشرين من يناير، في مواجهة بلاغ (جهاز الامن) تحت المواد (159) من القانون الجنائي، اشانة السمعة، ولم تتوقف هذه الاجراءات على صحيفة الميدان وحدها، حيث حقق جهاز الامن في الثامن عشر من يناير مع الصحفية بصحيفة (التغيير) مزدلفة دكام ومع رئيسة التحرير سمية سيد، بسبب مادة اعدتها مزدلفة، ونشرتها الصحيفة، انتقدت فيها جهاز الامن لممارسته الاعتقالات، كما حقق جهاز الامن مع الصحفية بصحيفة (المستقلة) هنادي الهادي.
وعقدت محكمة الملكية الفكرية محكمة الصحافة المطبوعات جلسة لمحاكمة الكاتب الصحفي محفوظ بشرى الذي يواجه بلاغ جهاز الامن تحت المادتين (66) من القانون الجنائي (نشر الاخبار الكاذبة)، والمادة (26) من قانون الصحافة (اثارة الفتنة الدينية او العرقية او العنصرية، او الدعوة للحرب او العنف)، حيث نشرت صحيفة التيار التي يعمل فيها بشرى العام السابق مادة صحفية عنوانها (وسخ افريقيا)، ادعي جهاز الامن بانه يمثل نشر ضار ومشين لسمعة جهاز الامن، وايضا استدعت نيابة الصحافة والمطبوعات ثلاثة صحفيين يعملون على تغطية اعمال البرلمان في الحادي والعشرين من يناير يعملون في صحف (المجهر، الانتباهة والاهرام اليوم).
وفي يوم الثاني والعشرين من يناير حقق جهاز الامن دائرة الاعلام مع الفريق المعد لبرنامج (الصالة) الذي تبثه قناة الخرطوم الفضائية، على خلفية حلقة استضيف فيها قائد معارض منتقدا الحكومة، واعتقل جهاز الامن والمخابرات الصحفي بصحيفة الميدان محمد همة المشهور ب(نيالا) من احدي مراكز حقوق الانسان، واطلق سراحه في نفس اليوم بعد مصادرة جهاز الكمبيوتر المحمول (اللاتوب)، ويطلب منه الحضور الى مكتب الامن يومياً، كما منع جهاز الامن قناة ام درمان من بث تسجيل مع رئيس حزب المؤتمر السوداني ابراهيم الشيخ، بعد ان صادرت شريط التسجيل.
المخاطر تحيط بالصحافة
تشير مديحة عبدالله رئيس تحرير صحيفة الميدان الناطقة باسم الحزب الشيوعي ان هذا العام بدأ بداية سيئة جدا في مجال الحريات الصحفية حيث مصادرة الصحف من المطابع والصحفيين يقضون اغلب الاوقات في مكاتب تحقيق جهاز الامن، وتقول مديحة لـ(عاين) ان اغلب اليوم يقضيه الصحفي في المحاكم، وان الصحفي اصبح مستهدف في شخصه، وتضيف ان مهنة الصحافة في هذا الوقت اصبحت مهددة، وتحيط بها المخاطر من كل الجوانب، وتقول (الصحف مهددة بخسائر اقتصادية، وكل العاملين في المجال الصحفي سيوجهون التشريد عندما تغلق الصحف بسبب الخسائر المادية)، وتضيف (لا يوجد اي مؤشر في تحسن الحريات الصحفية في البلاد ان تكون افضل حالا وحرية العمل السياسي مكبلة والقادة السياسيين في السجون)، وتؤكد ان الحكومة لن تتراجع عن الخطوات التي تقوم بها، وتتابع (نتوقع كل ما هو سئ من هذه الحكومة).
النظام يراقب نفسه
من جانبه يقول الصحفي محفوظ بشرى ان ما يستطيع قراءته خلف البلاغات ضد الصحفيين انها حلقة من حلقات محاولة الحكومة للسيطرة على الاعلام وجعله اعلاماً تابعاً للسلطة، ويضيف (في حين لو اصبحت الصحافة تتبع لها فهذا يهدم مفهوم الرقابة كليا)، ويقول لـ(عاين) ان تسعى الحكومة لجعل الصحفيين يؤمنون بانها نزيهة في مراقبة نفسها، ولا تحتاج الى الرقابة الاهلية المستقلة، ويتابع (لذا تعمل السلطة للقضاء على المنظمات المدنية، وعلى استقلالية الاعلام بمختلف الوسائل)، وعد ان البلاغات والمحاكمات ضد الصحفيين تمثل حلقة من حلقات هذا المسلسل، ويعتقد بشرى ان القادم سيكون هو الاسوأ خلال هذا العام على الصحفيين والناشطين، وعلى كل ما تري الحكومة انهم خارجها، حتي الوصول الى مرحلة لا يكون هناك صوت الا صوت الحاكم وحده.
في ذات السياق توقعت صحفية مثلت امام مكتب اعلام جهاز الامن فضلت حجب اسمها في حديثها لـ(عاين) ان واقع العمل الاعلامي في السودان لم يتغير ولن يحدث فيه اي جديد خاصة الصحافة الورقية التي تكبلها بالاجراءات القانونية من قوات الامن الاعلامية، وتضيف (نحن نكتب ويتم استدعاءنا في اليوم التالي مباشرة) وتشير الى العام الماضي ليس بافضل حالا من العام الجديد.
اجراءات الامن خدمة استراتيجية للحكومة
في السياق نفسه يرى المحامي وجدي صالح ان الاجراءات القانونية المقدمة ضد الصادق المهدي ومني اركو مناوي رئيس حركة تحرير السودان، لا تندرج ضمن الجرائم الجنائية البحتة التي يمكن للانتربول ان يقوم بواجبه بملاحقتهم، ويقول لـ(عاين) وان هذه الاجراءات تندرج ضمن الجرائم الموجهة ضد الدولة في القانوني الجنائي السوداني، ويضيف (وهذه جرائم ذات طابع سياسي فقط ولا تتدخل فيها الشرطة الدولية)، ويشير الى ان وجود المتهمين في دولة من الدول لا يلزم الشرطة الدولية بالقبض عليهم، ويضيف (عندما نفى وزير العدل محمد بشارة دوسة تقدم وزارته بطلب للبوليس الدولي باصدار مذكرة لملاحقة وتوقيف رئيس حزب الامة القومي ورئيس حركة تحرير السودان مني اركو مناوي، فانه يؤكد على عدم علم الحكومة بالاجراءات التي وصفها (بالفارغة).
ونوه صالح الى ان الاجراء الذي اتخذ نوع من وسائل الضغط السياسي لخدمة استراتيجية النظام، من اجل الوصول الى تسوية تعزز الموقف المفاوض للحكومة تجاه معارضيها، ويشير الى ان السلطات سبق وان اصدرت احاكماً بالاعدام على رئيس الحركة الشعبية – شمال مالك عقار وامينها العام ياسر عرمان واخرين، ويقول (هذه الاجراءات لا جديد فيها على الاطلاق وليست ذات طابع قانوني وانما تندرج ضمن الجرائم السياسية).
الامة متمسك بنداء السودان
وصف حزب الامة القومي في بيان تلقت (عاين) نسخة منه، شكوى جهاز الامن لمجلس الاحزاب والمطالبة بتجميد نشاطه وحله، ومصادرة ممتلكاته بانها معيبة، داعياً الى شطبها، ودافع الحزب بشدة عن توقيعه لاعلان (نداء السودان) مع الجبهة الثورية وقوى الاجماع، وقد سلمت لجنة قانونية من الحزب مسجل الاحزاب رداً على الشكوي، طلب شطبها لعدم قانونيتها، في ذات السياق اكد المحامي والناشط القانوني نبيل اديب ان الشكوى التي تقدم بها جهاز الامن معيبة، لان موضوع الشكوى هو موضوع يتعلق بسياسة الدولة ككل ولاصلة له بحقوق الجهاز بحيث لايجوز له الاختصام بشأنها، ويضيف ان تمثيل الدولة بشكل عام بالنسبة لاختصام الافراد والهيئات الخاصة، هو اختصاص حصري لوزير العدل، واوضح ان هذا يتوجب معه شطب الشكوى المقدمة ضد الحزب، وقد اكدت الامينة العامة للحزب تمسك حزبها باعلان (نداء السودان).
الاجراءات ضد حزب الامة فاقد للوعي السياسي
ويرى المحلل السياسي عبدالله ادم خاطر ان اجراءات ملاحقة الحكومة لرئيس حزب الامة الصادق المهدي ورئيس حركة تحرير السودان مني اركو مناوي تعبر عن غضب الحكومة تجاه الشخصين، ويقول لـ(عاين) ان هذه الاجراءات غير جادة وحتى وزير العدل نفسه نفي ان تكون وزارته طرفاً في ملاحقة الشخصين، ويضيف (لايستطيع اي مراقب معتدل ان يفسر هذه الخطوة في وقت يدخل فيه النظام الانتخابات العامة، خاصة انه يعمل على استمالة قاعدة عريضة لحزب الامة للانضمام اليه)، ويصف الخطوة بالاستفزازية لمشاعر وقواعد حزب الامة وكيان الانصار، باعتبار ان المهدي يمثل قاعدة عريضة، ويقول ان هناك شكوك حول هذه الاجراءات لان من قاموا بهذا العمل ليس من دائرة الوعي السياسي في هذه المرحلة بالذات، مؤكدا ان الانتربول لن يقبل دعوة الملاحقة للاتهام المنسوب لهم سياسي بحت ويدخل في اطار الجدل السياسي بين الاطراف المعارضة والحكومة، مستبعداً ان يضطر الحزب الى العمل في السر، لانه ليس مضطرا الى ذلك على الاطلاق، حتي يلجأ الى العمل السري او النشاط في الخفاء.
المؤتمر الوطني تتملكه ارادة الامن
لم يبدي القيادي في حزب المؤتمر السوداني عبدالقيوم عوض السيد استغرابه من منع جهاز الامن بث قناة ام درمان الفضائية حواراً اجرته مع رئيس حزبه ابراهيم الشيخ، وارفقها بمصادرة اشرطة التسجيل، ويقول (في ظل سيطرة الامن والعقلية الامنية كل شئ متوقع في البلاد، ويضيف لـ(عاين) لم تعد هناك مساحة للحريات السياسية والاعلامية في السودان والشاهد على ذلك التعديلات الاخيرة في الدستور والذي مكنته بصورة اكبر بعد شرعنة وتقنين عمل جهاز الامن دستوريا، ويقول (بعد هذا التعديل الاخير اصبح الامن قوة باطشة كبيرة في كل شئ ومن دون موافقة جهاز الامن لا يستطيع اي حزب سياسي القيام بادواره السياسية)، ويشير الى الشواهد كثيرة مثل اعتقال امين مكي مدني كبير المدافعين عن حقوق الانسان وفاروق ابو عيسى، وفرح العقار، كل هؤلاء داخل السجون، ويقول (لم تعد هناك امكانية لمخاطبة الجماهير في الميادين العامة، وحصر عملها في دور الاحزاب وهذه ايضاً لم تسلم من تدخل الامن المستمر).
ويعتقد عبدالقيوم ان الموقف الاخطر الان هو سعي الاجهزة الامنية لحظر نشاط حزب الامة القومي، وان من ينظر الى العمل السياسي في البلاد يري ان جهاز الامن تمددت شعابه، ويضيف (تم منع ندوة في الذكرى الثلاثين لاغتيال محمود محمد طه في جامعة الاحفاد، وفي مركز سمي باسمه عبر خطاب شفاهي تم اغلاق مركز محمود محمد طه)، وكل الشواهد تؤكد ان مساحات الحرية غير متاحة في ظل حكومة تتحدث عن حوار، ويقول (من المستغرب ان احزاب الحوار نفسها علقت وجودها داخل آلية الحوار الوطني وذلك لعدم جدية المؤتمر الوطني الذي اصبح تتملكه الارادة الامنية وليست الارادة السياسية وبالتالي اصبح يفكر بالعقلية الامنية فقط)، ويعدد شواهد كثيرة منها مقاطعة الاحزاب للانتخابات التي سيتم اجراءها في ابريل القادم الى جانب رفض الحوار الوطني الذي دعا له الحزب الحاكم قبل، ويقول (هذا يؤكد ان جهاز الامن هو من يدير العمل السياسي ولذلك لا اتوقع اي تحسين في الحريات السياسية والاعلامية والثقافية).