نخيل شمال السودان … أيادٍ خلف الحريق

تقرير: شبكة عاين 31 يوليو 2017

في ارض النوبة أقصى شمال السودان، يعتزّ السكان هناك بالنخلة كثيرا، متلازمة الحياة والفناء. “محمد عبد المطلب” مزارع بهذه الأرض يهتم بمزرعة نخيل ورثها عن أجداده، وتوفر هذه المزرعة لأسرته جزءا من متطلبات الحياة من ريع إنتاجها السنوي، حيث يتم  بيع الجزء الأكبر ويجود لأصدقائه ومعارفه بالجزء المتبقي. إستيقظ “عبد المطلب” ذات صباح على أصوات صياح أهل القرية، ليفرك عينيه التي لم تخطي ألسنة النيران وهي تتصاعد منها الشرر من جهة مزارع النخيل التي تحوي حقله مع آخرين، يمضى مسرعا لإنقاذ ما يمكن انقاذه ويجد هناك من سبقوه لكن النيران اقوى وتصعد بقوة أكثر إلى أعلى النخيل لتنهي على علاقة سنين مرتبطة الإنسان بأرضه. و”عبد المطلب” من ضمن مئات المزارعين فقدوا خلال الفترة الماضية الآلاف من أشجار النخيل المثمرة وغيرها في المنطقة النوبية شمال السودان بسبب حرائق مجهولة المصدر.

اكثر من 250 الف نخلة قضى عليها الحريق

وبحسب إحصائيات للهيئة النوبية، فان حوالي 250 ألف نخلة قد قضى عليها الحريق في المنطقة منذ العام 2005 وفي سنوات متتالية حتى نوفمبر 2016 الذي شهد عدة حرائق بقرى ومشيخات المحس والسكوت وقد بلغت الخسائر أكثر من (42 ) مليون جنيه، وأفاد عضو الهيئة، الحسن هشام (عاين) باين ثلاثة  ملايين من نخيل السودان من أصل ست ملايين توجد بمناطق السكوت والمحس.

 

وتكررت بشكل ملحوظ حرائق النخيل التي تلتهم آلاف النخلات في كل مرة بالولاية الشمالية، واستجابة “المطافي” بطيئة جدا، لكن مدير ادارة المطافئ في الولاية العقيد إبراهيم طه الشوش قال في ورقة خلال مشاركته في ورشة حول ” ظاهرة حرائق النخيل “ عقدت في جهاز الأمن والمخابرات بدنقلا ، إن نسبة الحرائق ارتفعت خلال السنوات العشر الأخيرة إلى 375 % ، والعام 2007 بلغت (53 ) حريق لتصل بنهاية العام 2016 إلى 186 حريقاً.

 

على ضوء هذه المعطيات الماثلة من حرائق ظلت تلتهم نخيل الولاية الشمالية، أخرها بمزارع النخيل في قرية (أدو) بجزيرة صاي بمحلية عبري في الولاية الشمالية، برزت عدة قضايا جوهرية، يقول الحسن أنه لا يمكن النظر للحرائق بمعزل عن (9 ) قضايا مرتبطة بتحولات تجريها الحكومة أبرزها   القرار الجمهوري رقم 206 والذي صدر في العام 2005 والقاضي بأيلولة الأراضي في الولاية الى وحدة تنفيذ السدود، إلى جانب عدم معالجة آثار سد الحماداب –سد مروي- من هدام ومياه ملوثة ويظهر الجزر الرملية الأمر الذي أسهم في صعوبة ري النخيل. بجانب المواد السامة التي تستخدمها شركات التعدين عن الذهب في عمليات استخلاصه وعلى رأسها مادة سيانيد الصوديوم بقصد تلويث المنطقة وعدم صلاحيتها للحياة في انسانها ونباتها وحيوانها ، ويشير عضو الهيئة النوبية، إلى أن كل هذه المشاكل خلقها النظام لمحاصرة المنطقة النوبية وافراغها من السكان.

 

إتهام السلطات الحكومية 

ويتهم الحسن السلطات الحكومية بعد اتخاذ اي إجراء بشأن الحرائق التي قضت على الآلاف من أشجار النخيل سواء كان في معرفة أسبابها ووضع معالجات لها، ويقول “من دون معرفة الأسباب لا يمكن التوصل إلى حلول وهذا بديهي”، هذا إلى جانب تجاهل السلطات المحلية تعويض المتضررين وتوفير المطافي المناسبة أو توجيه الإرشاد الزراعي بالعمل على توعية المزارعين بتجنب الحرائق، ويشير الى ان الحكومة تكتفي بإرجاع أسباب الحرائق إلى عمليات النظافة التقليدية من قبل المزارعين وتقف مكتوفة الأيدي حيال هذه الأسباب ومن الممكن ان تضع حلولا لذلك عن طريق وضع قوانين تجبر الأهالي على طرق نظافة محددة ومستمرة وتتفقد النخيل من وقت للتاني ويعاقب القانون متجاهلي النظافة.

 

ويحمل الحسن الحكومة مسؤولية استمرار الحرائق لجهة أنها صاحبة المصلحة في إفراغ المنطقة النوبية بموجب الضغوط التي يمارسها النظام المصري عليه في المنطقة. ويقول “ما يجري الآن في المنطقة النوبية هو إجبار الأهالي على النزوح لكن ليس الانتنوف مثلما يحدث في مناطق النزاعات الملتهبة في السودان وإنما بأساليب ناعمة”. ويضيف “حرب سرية تجري في شمال السودان”.

 

وينبه عضو الهيئة النوبية، الحسن هاشم، إلى أنه وتاريخيا بعد إغراق المنطقة النوبية بقيام السد العالي، فقدت التمور النوبية مركز تسويق مهم في مصر وبالمقابل لم تكلف كل الحكومات السودانية المتعاقبة البحث عن وضع بدائل لهذه السوق وبالتالي إنقاذ هذه السلعة والملايين الذين يعتمدون عليها.

 

وعزت ورشة عمل انعقدت دنقلا بالولاية الشمالية، في يونيو 2016 ظاهرة حرائق النخيل التي انتشرت أخيراً، إلى إشعال النار بغرض النظافة والتخلص من الأوساخ دون مراعاة لوضع الاحتياطات اللازمة

ويقول الحسن متهما الحكومات المتعاقبة على حكم البلاد وحتى اليوم، بانها لم تدخل كمشترى لسلعة البلح كغيرها من الذرة والقطن والقمح عبر البنك الزراعي الذي أنشئ لهذا الغرض. وبالتالي هناك عدم اعتراف بأنها سلعة استراتيجية وهذا بالتأكيد فهم خاطئ ولا يمت للحقيقة بصلة، لجهة ان التمور النوبية معروف عنها جودتها العالية وهي من فصائل التمور الجافة التي تتحمل التخزين لسنوات ويعتمد عليها كواحدة من المواد الغذائية المهمة.

ويضاف إلى ذلك، وفقا لهاشم، إلى أن الحكومة مع عدم دخولها كمشتر للحفاظ على السلعة وتشجيع منتجيها لم تطور الصناعات التحويلية بمعنى أنها لم تنشئ مصانع لإنتاج معلبات كالعسل والمربي من هذه التمور التي تحوي نحو 15 مادة غذائية من اهم المواد. ويقول “المصنع  الوحيد الذي تم تشييده في كريمة لم يعمل كثيرا وهو مغلق الآن”.

حريق النخيل والسدود


لكن الناشط المدني، عباس حاج طاهر، ينبه إلى أن الحرائق في نخيل الولاية الشمالية على الرغم من أنها كانت موجودة في وقت سابق، لكنها تزايدت في الفترة التي تلت إعلان الحكومة السودانية نيتها إنشاء سدين في دال وكجبار واللذان يغمران معظم الأراضي النوبية في الولاية.

 

ويقول، معروف ان هذه السدود وجدت مقاومة شعبية كبيرة، لذلك لا يستبعد لجوء السلطات الى اى وسائل أخرى تجعل من العيش غير ممكنا في الولاية التي يعتمد سكانها في الأساس على إنتاج النخيل.

الحرائق في وقت سابق بحسب- حاج طاهر- كانت نادرة وأسبابها معروفة وتسبب فيها أعمال النظافة عن طريق الحرق وفي معظم الحالات التي حدثت فيها حرائق لهذه الأسباب لا توقع خسائر كبيرة لجهة ان عمال النظافة موجودون يخمدون الحريق في لحظاته الأولى. لكن ومنذ إعلان الحكومة إنشاء السدود في الولاية لا يمر شهر دون ان نسمع عن حريق ضخم يقضي على الآلاف من أشجار النخيل، وهذه الحرائق عمت جميع القرى النوبية في الفترة الأخيرة ابتداءاً  من قرى السكوت جنوبا حتى منطقة كرمة البلد ارتقشا شمالا.

حرائق متعمدة

ويقول حاج طاهر، لـ(عاين)، ان ما ذهب إليه من ان الحرائق ناتجة عن أعمال منظمة وبفعل فاعل هو مجموعة الحرائق التي قضت على آلاف الأشجار المثمرة في جزر ومناطق غير مأهولة بالسكان مخصصة للزراعة في المقام الأول،ويضيف “هناك أكثر من حادثة الحرائق بفعل فاعل تم اتهام مؤيدي السدود فيها لكن لم يأخذ الأمر منحى قانونيا بسبب وساطات قيادات أهلية بتلك المناطق”.

ولأن السكان يعتمدون على النخلة في تصريف شؤون حياتهم، لكن هذا الواقع بدأ يتبدل تماما في المناطق النوبية. فلم يعد السكان على ثقة بأن يؤمن انتاج النخيل لهم عيشهم، ومع ظروف الحرائق التي قضت على مصادر دخل مئات الأسر في تلك المناطق تدخلت ظروف اقتصادية أخرى كلها مرتبطة بالسدود ومخاوف الهجرة حسبما يقول عباس طاهر، ويرى أنه ومع كل هذه الظروف فان مدخلات الإنتاج تصعد بقوة مع مردود اقتصادي غير مجز للمنتج من النخيل.

ويضيف ” معظم القرى النوبية أصبحت الآن خالية من الشباب.. ولا ينوى سكانها استصلاح الأراضي المحروقة وزراعة نخيل جديد بسبب ان عائد النخل أصبح غير مجز وتمنع الظروف المناخية تبديل زراعة النخيل باي أشجار ذات عائد مجز كالفواكه وغيرها”.

ويشير إلى أن معظم الشباب في هذه القرى هاجرت بهم مخاوفهم بعيدا لتأمين مستقبلهم بعيدا عن أرضهم وفي بالهم مخاوف مازالت قائمة من قبل الحكومة وتهديد بالإغراق بإنشاء السدود.

وفي خضم هذا الواقع بدأت تطفو إلى السطح تحولات عديدة في جانبها الاقتصادي والاجتماعي، واقتصاديا بدأ السكان غير مطمئنين على سلامة النخلة وبالتالي منتجها حتى يتم التعويل عليه في كافيته غذائيا.

ويقول الحسن هاشم، هذه الحرائق دقت إسفينا بين نوبيي الشتات والمتواجدين في القرى. ويقول “انتفت علاقة اجتماعية تعضد من ترابط النوبيين فيما بينهم، وفقد النوبيون في المهاجر بموجب هذه الحرائق مصلحتهم في العودة إلى ديارهم ايام الحصاد وبالتالي تأهيل منازلهم في القرى النوبية”، ويضيف “على الرغم من ذلك يعي النوبيون أن خط دفاعهم الأول ضد هذا المخطط الجهنمي هو البقاء في مناطقهم لذلك بدأوا عمليات زراعة جديدة هذا إلى جانب الى ان بعض الاشجار المحترقة بدأت في النمو مجددا”.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصورة الرئيسية حاصلة على رخصة المشاع الابداعي  بواسطة David Haberlah.