مُهجرُّو سد مروي … ضحايا مياهه الملوثة
تقارير عاين الإستقصائية: ٦ اكتوبر ٢٠١٧
في جلسة صباحية على شارع رئيس في إحدى قرى المهجّرين في عمق صحراء شمال السودان، يتدبّر “عثمان السيد” مع شقيقه شؤون وحسابات تكاليف علاج طفله “أبوبكر” ذو العامين للمرة الثانية على التوالي، من ترسبات حصيتين في كليته والحالب.
أنفق “السيد” على العملية الأولى لنجله، تعويضه الكامل بعد فصله من عمله كخفير في مشروع زراعي تُديره الوحدة الحكومية التي نفذت سد مروي. بعدها، وجد الأب نفسه في معادلة صعبة، إذ تجددت آلام طفله وأثبتت الفحوصات الطبية حاجته لجراحة تُزيل الحصوة التي تكونت بعد أشهر من إجراء العملية الأولى عبر “التفتيت باليزر”.
هذه الحصى المتجددة في جسد الطفل أبو بكر، واحدة من حالات عديدة تراكمت في منطقة سد مروي، أضخم مشروع للتوليد المائي للكهرباء في افريقيا والسودان، إذ يُنتج ١٢٥٠ ميغاواط من الطاقة. بيد أن مشروع السد الذي هجّر عشرات آلاف المواطنين على ضفتي النهر، إلى مناطق صحراوية لوّث مياه الشرب، وفقاً لتحقيق استقصائي وفحوص مخبرية أجرتها شبكة “عاين” على عينات متعددة. منطقة أمري الجديدة تضم حوالى 25 ألف مهجر يواجهون متاعب كبيرة في الحصول على مياه الشرب، بعدما كانوا يشربون من مياه النيل مباشرة في قراهم الأصلية. اليوم، يلحظ السكان فارقاً أساسياً في اللون والرائحة بين مياه النيل وتلك الشحيحة التي يحصلون عليها اليوم.
لا بدائل سوى الماء الملوث
إلا أن هذه العائلات – وعددها بالآلاف – غير قادرة على تأمين مصادر أخرى لمياه الشرب، نظراً لإمكاناتها المتواضعة، إذ سبق أن خسرت مورد رزقها الأساسي، أي الزراعة على ضفتي النهر، بعد تهجيرها بالقوة إلى صحراء وادي المقدم (٦٥ كيلومتراً غرب النيل) إثر شهور من بدء العمل بمشروع سد مروي بمنطقة أمري عام ٢٠٠٤. وهذه العائلات لم تخرج إلا بقوة القمع إذ واجهت الشُرطة احتجاجاتها بقتل ٣ أشخاص وجرح العشرات، ثم أغرقت مساكنهم ومزارعهم لدفعهم مجبرين إلى الرحيل.
عثمان السيد، والد الطفل “أبوبكر”، يقول إن “الطبيب الذي أجريت معه الفحوصات على ابني، رجّح أن تكون مياه الشرب، السبب الرئيس لمرضه بترسبات الحصاوي… ونصحني بعدم شربها مجدداً”.
“لكن ليس بمقدوري التزام أوامر الطبيب، وإن حاولت ذلك مرات للحفاظ على صحة ابني. هُجّرنا الى منطقة صحراوية، وبعدما كُنّا نشرب من مياه النيل مباشرة، أصبحنا نشرب من آبار أنشأتها وحدة السدود في القرى (مياه جوفية). ابني ليس وحده الذي يعاني هذا النوع من المرض، بل هناك حالات عديدة مشابهة”، يقول “السيد”.
خاتمة محتملة
لتلوث المياه والأمراض الناجمة عنها آثار سلبية على تدهور الوضع المالي للسُكان وجميعهم من العمال. فـ”السيد” الذي فقد عمله، بات عاملاً يومياً مع مجموعة معدنين تقلديين عن الذهب في الولاية الشمالية، لا يرى سبيلاً “سوى الإستدانة من معارفي لإجراء عملية ثانية لإبني في مستشفى غير حكومي بالخرطوم، وتقديراتها الأولية حوالى ١٨ ألف جنيه دون المصاريف الأخرى، سيما أنني غير مقيم بالعاصمة ولا أملك بطاقة علاجية تُخفف عني مصاريف العلاج”.
في الشارع الثالث من منزل “عثمان السيد” بالقرية ٣ (امري الجديدة)، يستعد “سليمان عبدالله” (٧٣ عاماً)، للذهاب الى المركز الوحيد لغسل الكلى بمدينة كريمة. رغم أن هذا المشوار يبعد حوالى ٣٥ كيلومتراً، اعتاد عبدالله منذ عامين أن يذهب اليه مرتين أسبوعياً بعدما فشلت كليته في أداء دورها الطبيعي. و”عبدالله” الذي ترك ادارة مزرعته إلى شقيقه، فقد مصدر رزقه الوحيد بسبب أعطال في ناقل المياه بعد توقف “طلمبات” المشروع الحكومي. بعدها، صار شقيق “عبد الله” عامل يوميات في القرية ليؤمن مصاريف تنقله إلى مركز غسل الكلى في مستشفى المدينة.
“حمد بابكر” (٤٠ عاماً)، واحد من الأمثلة التي ذكرها “السيد” للاصابة بالحصاوي في الكُلى. يعمل حمد أستاذاً بالمدارس الثانوية بقرى التهجير وينشط في العمل المدني. قدم إلى القرية ٤ خلال العام ٢٠٠٧. حينها، “كنت لا أواجه أي مشكلة صحية، وبعد التعاطي مع كافة اجواء المنطقة الجديدة من مياه وغذاء، واجهت متاعب صحية وبعد معاينات طبية، أبلغني الطبيب المحلي بأنني أُعاني من أملاح زائدة في جسمي قد تقود الى حصاوي وربما فشل كلوي”.
“بالفعل، هذا ما حدث، خلال ٧ اعوام، أجريت أكثر من ٥ عمليات استخراج حصاوي من الكلي والمثانة منها عمليات جراحية وأخرى بالليزر وأخرى خرجت عن طريق أدوية دون الحاجة الى تدخل جراحي. وفي كل مرة، يُبلغنى الطبيب بأن عليّ تغيير المياه التي أشربها، إما عن طريق غليها، أو تقطيرها عبر “الزير”، وهي حافظة مياه محلية مصنوعة من الفخار. عجزت عن هذه الاجراءات لأنني أتنقل بين مدارس المهجرين لتدريس اللغة الانجليزية، وأكاد أكون الأستاذ الوحيد فيها … حالياً أشكو سخانة بول شديدة وأتوقع جولة جديدة بين المستشفيات المحلية ومشافي الخرطوم”، يقول حمد.
مبادرات محدودة للتنقية
في العام ٢٠٠٦، كانت ضمن الخدمات المتوافرة في قرى التهجير شبكة آبار (مياه جوفية) موزعة على أربع قرى بواقع ٣ آبار لكل قرية. لم يألف السكان استخدامها للأملاح الزائدة التي تعتريها وتغير في طعمها، لكنهم استهلكوها مضطرين.
بعد نحو ٤ سنوات من استقرارهم بهذه القرى، بدأت بعض هذه الآبار تجف، وبالتالي تأرجحت مياه الشرب بين الشحّ والعدم. وظل هذا الوضع الى ما هو عليه سنوات حتى استفحلت الأزمة وتعطلت كل الآبار عدا واحدة تسقي قريتين لا يقل مجموع سكانها عن عشرة آلاف.
حتى خلال هذه السنوات، كانت مياه الآبار تضخ مباشرة إلى الشبكة دون أن تمر بأحواض ترسيب أو معالجة في الصهاريج. لذا فإن بعض السكان أخذ المبادرة في تنقية المياه بوسائل تقليدية. تقول “زهرة النور” إنها تُضطر إلى تنفيذ عمليات ترسيب وتنقية بحيث تمر المياه بأربع مراحل حتى تُصبح صالحة للاستهلاك. “وبعد تعبئة الأواني في المنزل عبر قطعة من القماش لحجز الشوائب، تظل المياه في إناء كبير لمدة يوم كامل حتى تُرسب مرة أخرى وتنقل الكمية النقية الى اناء آخر ومن ثم الى “الزير”، وهي حافظة مياه طينية، على أن تُبرّد لتصير صالحة للاستهلاك”.
لكل قرية مرض!
في القرى التي تعطلت فيها آبار مياه الشرب الجوفية، لجأت السلطات الحكومية، إلى تحويل مياه المشروع الزراعي مرتين أو ثلاث أسبوعياً. ولهذا الإجراء أخطار جمّة. يقول “عبد اللطيف الحسين”، وهو مسؤول محلي عن تشغيل شبكة مياه القرية ٣، إن تحويل المياه يتم مباشرة دون المرور بأي أحواض ترسيب، علماً بأن مياه المشروع الزراعي تمر عبر “ترعة” (مسار ترابي) حوالى ٢٥ كيلومتراً من النيل الى مزارع المشروع. مياه الترعة الرئيسية التي تمد شبكة القرية ٤، تظل راكدة لأيام ويميل لونها الى الاخضرار، ويشرب منها أغنام وحيوانات اهل هذه القرى.
بحسب المدير الطبي، والطبيب العمومي بمستشفى أمري الجديدة، عبد الخالق حسين ابراهيم، فان معظم الحالات الواردة الى المستشفى على ارتباط وثيق بتلوث المياه، سيما تلك القادمة من ترعة المشروع الزراعي.
نظراً إلى اختلاف مصادر مياه الشرب الملوثة، تختلف الأمراض بين قرية وأخرى. فالحالات المرتبطة بالأمراض البكتيرية كالاسهالات المائية، تأتي من القرى التي تشرب من مياه الترعة. غير أن مساعدين طبيين في القرية 5، حوّلوا مرضى يُعانون من أملاح زائدة وحصاوى، ومعروف ارتباط ذلك بتلوث المياه الجوفية في الآبار، والتي تُزود شبكة المنازل بحاجاتها.
عبد الخالق الذي يعمل في مستشفى امري الجديدة منذ عامين، يرجح أن تلوث الماء سبَّبَ الحالات الواردة من القرية ٥ تحديداً (سكانها ٩ آلاف)، سيما تلك المرتبطة بالأملاح والحصاوى وامراض الكلي. ويجزم عبد الخالق، وهو الطبيب الوحيد بمستشفى أمري، بأن “معظم الاصابات الداخلة ذات علاقة بالمياه … الملاريا مثلاً تعيش في المياه الراكدة … والاصابات بهذا المرض أيضاً عالية”.
الحكومة تُخفي الأزمة ولا تُعالجها!
والسلطات تقف متفرجة رغم ابلاغها بواقع الحال هذا، وفقاً للمسؤول الأهلي عن تشغيل محطة المياه عبد اللطيف الحسين. “نُعرّض القرى مرات كثيرة للعطش تجنباً لنقل مياه راكدة وملوثة إلى السكان”، بحسب الحسين، “لكن نضطر مرات كثيرة الى نقل هذه المياه الى الشبكة خشية فقدانها بما أن الترعة نفسها قد تجف لشهور بسبب الاعطال التى تلاحق مضخات مياه المشروع الزراعي الضخمة، وحتى لا نعرض آلاف السكان للعطش سيما أنهم في منطقة صحراوية والنيل يبعد عنهم كيلومترات عديدة”. ويضيف الحسين أن “هذا الحال استمر لسنوات ووحدة تنفيذ السدود- حكومية- التي أشرفت على شبكات المياه التي تعطلت الآن على علم بذلك، وادارة المياه وكل الجهات الحكومة ذات الصلة بالامر على علم لكنها تقف موقف المتفرج حتى اللحظة”.
هذا العام، تفشت إسهالات حادة وسط السكان، وسجلت قرى التهجير معدلات دخول عالية للمستشفيات المحلية. أدى ذلك إلى حراك بين اللجان الاهلية في المنطقة بحثاً عن أسباب انتشار هذا المرض. وبعد اتصالات لقيادات هذه اللجان، أوفدت وزارة الصحة الولائية فريقاً صحياً الى المنطقة، اقتصر عمله على توزيع مادة الكلور على السكان.
“التركي حمد”، الأمين العام لاتحاد شباب “امري الجديدة”، لم يقتنع بالإجراء الحكومي. “علمنا بأن وزارة الصحة الولائية أجرت فحصاً على المياه في المنطقة، وحصلنا على خطاب صادر من الوزارة موجه لوحدة امرى الصحية، نصه: أنه وبعد فحص عينات من مياه الشرب بالمنطقة لاحظنا تلوثاً بنسبة ٨٣٪، تُمثل مياه المشروع الزراعي القدر الأكبر منه … حسب النتائج، هناك ضرر على صحة وسلامة المواطنين، وعليه نرجو اتخاذ اللازم حتى لا يحدث وباء”. الخطاب أكد أضرار المياه على صحة المواطنين، لكن الوحدة الادارية الحكومية “أخفت التقرير ولم تُعالج المياه”، وفقاً للتركي.
وهذا الإخفاء ينم عن معرفة مسبقة بآثار التلوث. إذ حذّر كتاب “Dams and Disease” الذي صدر عام ١٩٩٩، أي قبل سنوات عديدة من بدء مشروع مروي، حذر من التلوث البيئي للمشروع، ويصفه بـ”الفكرة السيئة”، ويعتبر تهجير سكان المنطقة “كارثة أخرى للسودان”. وحذر الكتاب أيضاً من إنتشار أوبئة الملاريا الشديدة، البلهارسيا، فقدان البصر وغيرها في حال تنفيذ المشروع دون أخذ آثاره في الاعتبار.
فحوص عاين
وفّر إنشاء سد مروي مصدران أساسيان، مياه الشرب في جميع قرى المهجرين من منطقة امري. الأولى مياه جوفية مصدرها بئران في القرى ٢ و٣ و٤، والمصدر الثاني ترعة مياه ري المشروع الزراعي التي تُسحب إلى شبكة المنازل مباشرة.
أخذ عينة من المصدرين للفحص الكميائي والبكتيري تطلب خطوات عديدة، إضافة إلى ذلك واجهتنا صعوبات عديدة، منها أن المعمل القريب من المنطقة، خاضع لإشراف وحدة تنفيذ السدود، وهي المسؤولة الاولى عن تخطيط وتنفيذ قرى التهجير وخدماتها بما فيها مياه الشرب.
توجهنا أولاً إلى المعمل الحكومي بمدينة مروي، حيث قدمنا عينتين من مصدري المياه، تراجع الموظف عن إكمال الاجراءات عندما علم بأن العينتين من مناطق قرى التهجير، سيما امري الجديدة. كما امتنع عن تقديم أي معلومات عن الدراسات السابقة حول المياه الجوفية التي كانت تشرب منها جميع القرى.
لم يكن أمامنا خيار غير البحث عن معامل في العاصمة السودانية وتقديمها الى معملين بعد اخفاء هويتنا، وعلى اساس إننا لجنة أهلية في المنطقة تريد معالجة المياه بعد ملاحظة تغيرات في طعمها ورائحتها.
أخذنا عينات بئرين في المنطقة وعينة من مياه الترعة. أظهرت نتيجة الفحص الكيميائي الأول، صلاحية المياه للشرب وفقاً للمعايير السودانية. العيّنة سجّلت إرتفاعاً في الأملاح تجعل المياه غير صالحة للشرب وفقاً لمعايير الصحة العالمية.
المفاجأة كانت في الفحص البكتيري. أظهر الفحص البكتيري لمياه البئر الثانية التي تُزوّد القريتين ٤ و٢ بمجموع سكاني يتعدى الـ١٧ الف نسمة، جاءت نتيجته أن المياه بها بكتيريا (٢٠٠) درجة، ومياه الترعة التي تشرب منها القرية ايضا اظهرت بكتيريا (١٦٠) درجة، والمعدل الطبيعي مقرر (صفر) درجة، وفقاً لمسؤولة بمعمل هيئة مياه ولاية الخرطوم.
وتظهر نتائج الفحص أيضاً ارتفاعاً في نسبة الأملاح. أظهرت النتيجة ١٠١١ درجة، فيما تحدد منظمة الصحة العالمية، الأملاح في مياه الشرب ٥٠٠ درجة فقط.
وتقول الخبيرة في مجال مياه الشرب صفية خير الله، إن التلوث البكتيري الذي أظهرته الفحوصات، مؤشر لتلوث كارثي ما لم يتم تدارك الموقف في مياه هذه القرى. وتشير الى ضرورة عاجلة في عمليات “كلورة وتنقية” مصدري المياه.