فوضى الخرطوم: الشرطة عين نائمة

شهدت العاصمة الخرطوم حالات من الفوضى عبر اجهزتها الامنية وجرائم غريبة مثل حوادث قتل وتقطيع ثلاثة جثث بحي شمبات. وتكررت احداث اخرى جعلت المواطن يبحث عن أمنه بشكل ذاتي. فهل فقدت العاصمة الخرطوم امنها بسبب الضغط الاقتصادي؟ ام ان هنالك نوع من الجريمة المنظمة أصبحت تشكل هاجساً يخيف الناس؟ هل فقدت الخرطوم أمنها؟

لم يكن يدري سامر الجعلى أن السير الذي اعتاده للترويح والنزهة على شاطئ النيل، بمدينتُه العريقة أم درمان قد يكون مدعاة للقتل دون سابق إنذار. لم يقتل سامر برصاص مجرمين أو قتله عندما خرج عشية أحد الايام للسير والجلوس على أطراف النيل بامدرمان بل قتل برصاص الشرطة وتحديدا شرطة النظام العام.

لم يكد سامر يكمل جلسته الهادئة تلك حتي فوجئ أفراد شرطة النظام العام يتربصون به، فقاومُهم ولاذ بالفرار. ولكن قبل أن يتمكن من استدارة محرك سيارته عاجل احد افراد قوات الشرطة برصاص اخترق جسده الناحل فارداه قتيلاً.

فوضى الخرطوم: الشرطة عين نائمة
صورة لحادثة الاغتصاب التي حدثت في يوليو 2018 بحي المنشية جوار السفارة الصينية

تصاعد العنف

ولم تكن حادثة سامر التي أثارت رفضا واستهجانا واسعا، سوي صدمة ضمن سلسلة أحداث عنف واسعة هزت العاصمة في الاونة الاخيرة في تصاعد غير مسبوق للجريمة المنظمة التي امتدت من السرقة للقتل والاغتصاب في ظل صمت وتورط من قبل الأجهزة الرسمية التي وصلت لدرجة القتل بالرصاص دون سبب واضح، وسط صدمة وخوف من قبل الأسر والمواطنين.

وخلال شهر واحد شهدت الخرطوم أحداث عنف دامية وصادمة منها مطاردة لصوص من قبل صيدلي وسط احياء امدرمان والتي قام فيها الصيدلي بإطلاق نار اصابة احد الاطفال فاردته قتيلاً. هذا وكانت مدينة بحري قد شهدت ابشع جريمة قتل بشقة في حي شمبات بعد العثور على ثلاثة جثث محشوةً بجوال. وشهدت منطقة امبدة اغتيال تاجر كان يحمل داخل سيارته يحمل مبلغ 2 مليار ونصف جنيه سوداني. غير الاحداث المتفاوتة والتي لم تحصل على تغطية اعلامية مثل أحداث عنف الشرطة المتكررة وجرائم النهب والتهديد بالشوارع الخالية من المارة. فضلاً عن ارتفاع حوادث اغتصابات الاطفال والاغتصاب وسط الشارع العام الذي وقعت أحداثه بضاحية المنشية شرق الخرطوم.

انفلات وتحذيرات

ويحذر خبراء من تصاعد العنف المجتمعي في ظل تواطؤ الشرطة وغياب حكم القانون وانتشار الحصانات وانحياز الحكومة لمنسوبيها وإهدارها المحاسبية وفتح أبواب الإفلات من العقاب في ظل قوانين قمعية عديدة ما تزال محل جدل ورفض من قبل المعارضة وقطاعات واسعة من المواطنين.

ويشير الخبراء إلى انتقال الجرائم المنظمة وتواطئ الاجهزة الرسمية مع حالة الإفلات من العقاب من مناطق الحروب والعمليات العسكرية في أطراف البلاد إلى أوسطها في ظاهرة غير مسبوقة ومستمرة في التمدد.

ويحذر هؤلاء بان غياب العدالة وتصاعد أحداث العنف والجرائم يؤكد انفلات القوات الرسمية بل واستهدافها للمواطن بالرصاص وسط العاصمة، مما يؤدي إلى فقدان الثقة في الأجهزة الشرطية والعدلية ويدفع المواطنين باتجاه أخذ حقوقهم بأيديهم، وهو الأمر الذي يؤكد انتشار اقتناء الأسلحة بايدي المدنيين بصورة متزايدة ومقلقة.

وانتشرت ظواهر أخرى الاقتتال القبلي في نزاعات الأراضي في مناطق مختلفة من البلاد، وبرزت مجموعات سكانية مختلفة تمتلك كميات كبيرة من الاسلحة مثلما ظهر في النزاعات القبلية التي أدت الى مقتل العشرات مثل نزاع العسيلات والفادنية شمالي الخرطوم، ونزاع الهوسا واللحويين في ولاية القضارف، فضلا عن استمرار النزاعات القبلية المنتشرة أصلا في مناطق الحروب في السودان لا سيما في دارفور.

 فوضى الخرطوم: الشرطة عين نائمة
عوضية عجبنا التي قتلت برصاص شرطة النظام العام في مارس 2012 وسامر الجعلي الذي قتل برصاص شرطة النظام العام في يوليو 2018

الشرطة عين نائمة

مظاهر يصفها المجتمع السوداني بالدخيلة، دون سبر اغوارها، وما الأسباب المباشرة لوقعها في وسط العاصمة التي يتحدث عنها الناس بالأمن. ويقول المواطن نور الدين النيل من منطقة امبدة لـ(عاين) أنه قد تفشت في الاونة الاخيرة جرائم غريبة جعلت الجميع يحرص على تواجده اما امام المنزل او في وسط تجمعات شباب الحي خوفاً من وقوع كارثة تضر بصاحبه بسبب جهاز تلفون. ويضيف النيل “خوف الاكبر بيجي من بتاعين المواتير مع مغيب الشمس ديل خطفوا تلفون شنطة اي شي وممكن تقع تتكسر بسبب شنطة فاضية او تلفون بطاريتو عطلانة“. كل هذه الجرائم في شوارع رسمية الكثير منها يقع على مرائي قوات الشرطة التي لم تستطيع إطلاق النار ولا المطاردة. فيما يصر الخبراء بان الاوضاع الاقتصادية وتفشي الفقر والفساد وغياب العدالة هي الدوافع الاساسية وراء انتشار الجريمة التي فاقم منها تورط الشرطة وفسادها إضافة انحياز الدولة وحمايتها لاختراقات الشرطة بشكل واضح، مثلما حدث في مقتل الشهيدة عوضية عجبنا وغيرها.

ويشير الخبراء إلى ان غياب العدالة يعد عاملا حاسما وسببا مباشرا لانتشار الفوضى وثقافة العنف والثأر وأخذ الحقوق باليد، الأمر الذي ينذر بفوضى ربما تعم على الاقل العاصمة الخرطوم تحت أي لحظة.

انتشار الأسلحة

بدأت العاصمة الخرطوم تشهد انتشاراً للاسلحة النارية من أنواع بندقية كلاشنكوف – وبندقية جيم 3 – مدفع ام بي 5 اضافة الى المسدسات الشخصية. ووفق دراسة أجراها معهد تنمية المجتمع بجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا، من الصعب حصر كمية الأسلحة المنتشرة داخل ولاية الخرطوم، ولكن بعد استبيان لها خرجت الدراسة بأن الأسباب الرئيسية لاقتناء السلاح تعود الى الحماية “الامن”. قسمت الدراسة مالكي الاسلحة في اطراف العاصمة الخرطوم الى نسبة لانعدام الأمن، وتشير ذات الدراسة الى ازياد نسبة القتل خارج القانون في السنوات الماضية بسبب انتشار السلاح في أيدي الناس. ويرجع الخبراء الذين تحدثوا الى (عاين) تفشي الاسلحة بكافة اشكاله عند المواطن الى فقدان الامن الاقتصادي وضعف دور الدولة في حماية مواطنيها، لذلك كل من يخشى على ماله او عرضه يتملك سلاحاً لحماية نفسه.

ويؤكد المواطن حسن اسماعيل بانقا ان امتلاك السلاح أصبح أمرا عاديا لا سيما في العاصمة الخرطوم، ووسط الأسر الغنية التي تملك أموالا أو عقارات، الخ. ويقول بانقا انه يمتلك اثنين من أنواع السلاح صغير وكبير للحماية الذاتية، حيث يقول “انا عندي مسدس عيار 6 م وكلاشنكوف، الأول للحركة والثاني في البيت لحماية نفسي وقروشي لانو البلاد ما مضمونة“.

ضيق العيش

ويعزي بعض الخبراء الخلل الأمني بالخرطوم الى ضيق سبل العيش وغلاء المعيشة التي تتطلب احتياجات كثيرة متواصلة، وترجع خبيرة علم النفس سليمى اسحق شريف في حديث خاص لـ(عاين) أن الخلل لسببين رئيسين، الأول هو الفقر بسبب التغيرات الاقتصادية. والثاني هو الوضع السياسي القهري حيث العنف الممارس من قبل الدولة التي تمر بأزمات ومختلف أشكال العنف.  وترى سليمي أن العنف المتصاعد حاليا يعد تعبيرا ومردود نفسي متوقع بدرجة كبيرة جدا شكل المجتمع المترابط أو collective طرأت عليه تغيرات كبيرة لفُقدان كثير من الإرث الاجتماعي والثقافي بسبب التغيرات الكبيرة على المستوى القومي.

ولكن الخبير الاجتماعي د. ثريا النور ترجع أسباب الفوضى الى الخلل المجتمعي ذات نفسه. بغياب دور الاسرة والرابط الاجتماعي للمناطق وتقول “في السابق كانت الاسرة والحي يشكلان اكبر حماية للمنطقة المعنية” ولكن تغيرت الأحوال الآن بسبب المدنية والهجرات الكثيرة خاصة الأجانب الذين أصبحوا منتشرين في كل أرجاء العاصمة ولهم علاقات بالكثير من الجرائم. كا حادثة اغتيال قنصل نيجيريا بالخرطوم وضبط سوري بحوزته سلاح بضاحية كافوري، فضلا عن الجماعات الارهابية التي ضبطت في ضواحي الخرطوم.

وتضيف في حديث لـ (عاين) “ان الدور الرسمي للدولة انتهى ويجب أن لا نعتمد عليها” لأن الحكومة باختصار هي المشكلة الأساسية. واختلال الأمن يصب في مصلحة هتك النسيج الاجتماعي بتفرقة الناس على أساس مناطقي وأثني.

 فوضى الخرطوم: الشرطة عين نائمة

فوضى محمية

وتحمي الدولة الاجهزة الشرطية والامنية بترسانة من القوانين بينها قوانين الأمن، الشرطة، النظام العام الخ … الأمر الذي جعل الأجهزة الرسمية تعمل بسند قانوني. يُعرف في السودان بقانون النظام العام المنبثق من القانون الجنائي لسنة 1991، وهو القانون الذي يضع رقابة على المواطن وعقوبات رادعة في جرائم مثل الأفعال الفاضحة والمخلة بالسلامة العامة، المادة 152 الأفعال الفاحشة، و المادة 151 الزي العروض المخلة بالآداب العامة المادة 153 كل هذه المواد يمثل رجل الشرطة فيها الشاكي والشهود. وهو الامر الذي اعطى مزيد من التشفي تحت مواد هذا القانون إلى أن وصل الأمر الى تربص أفراد القوات المسلحة بالمواطن.

ويرى مقدم معاش بالشرطة فضل حجب اسمه لـ(عاين) ان السبب الرئيسي وراء تفلتات أفراد الشرطة هو هشاشة الأعداد “التدريب أصبح غير جيد وفترته قصيرة“، اضافة الى الحقد الطبقي الذي وسع الفجوة بين السكان. والأحقاد الشخصية التي تدفع بعض الشباب للدخول الى الشرطة فقط لاجل الانتقام من انسان معين، يتفاوت الانتقام من اهانه الى ان يصل درجة تلفيق التهم والسجن. واتهم ذات المصدر السلطات بالتكريس لهذه الجرائم وإعطاء العساكر ضوء أخضر لانتهاك حقوق الإنسان. وزاد “في السابق عملية التأهيل تخضع لمعايير صارمة وفترات تدريب طويل لغسل كل الأمراض ليصبح الشرطي صديق المواطن” ويضيف المصدر أن الآن تغيرت الأمور وأصبح المعيار كمي اكثر من انه كيفي،  وان معظم افراد الاجهزة القمعية في الأصل هم من خارج منظومة المجتمع الاسرية لذلك لا وازع لهم. ويضيف ذات المصدر “وللاسف تستغلهم الحكومة، وبعض الزًباط لتحقيق أغراضهم الذاتية”.

وتحذر الخبير النفسي سليمى اسحق شريف من الانفلات بسبب استمرار تدهور الأوضاع الاقتصادية. وتقول “الأوضاع الاقتصادية المتدهورة تفرز الفساد في الأجهزة الحكومية العدلية، والاجهزة النظامية، والعنف الممارس من قبل نظاميين يعتبر فساد وسوء استخدام سلطات واضح” ، مشيرة إلى عدم وجود أي مرجعية قانونية تبرر هذه التصرفات. وتضيف الخبيرة أن عدم وجود محاسبة يشجع الاستمرارية في الجرائم واستخدام السلطات لتحقيق مكاسب شخصية او مادية يؤدي ايضا الى مردود نفسي سلبي واهتزاز الثقة بالنفس والإحساس بالدونية بسبب الأوضاع الاجتماعي او الاثنية او الايدلوجية لبعض المواطنين أو المجموعات السكانية، الامر الذي يجعل الانتماء للسلطة متنفسا جيدا لكثير من اضطرابات الشخصية.

فوضى الخرطوم: الشرطة عين نائمة
تحذر الخبير النفسي سليمى اسحق شريف من الانفلات بسبب استمرار تدهور الأوضاع الاقتصادية. وتقول “الأوضاع الاقتصادية المتدهورة تفرز الفساد في الأجهزة الحكومية العدلية، والاجهزة النظامية، والعنف الممارس من قبل نظاميين يعتبر فساد وسوء استخدام سلطات واضح”

“دائرة جهنمية”

أما عن ردود الأفعال المجتمعية مع هذه الجرائم والتي اتسمت بالصمت والقبول المجتمعي بصورة من الصور، تتفق كل من سليمى وثريا في ان المجتمع السوداني لا يرغب في وجود ضحايا او بالاحرى يتعامل بشكل من أشكال الإنكار للواقع الماثل. وتقول سليمى “المجتمع ما بحب وجود ضحية او شماعة كما متعارف عليه والنكران لوجود مشكلة هو سمة أساسية”. ويُضفن متفقات  أن التبرير لوجود الحدث بالنسبة لاغتصاب الأطفال غير مقبول لكن المجتمع نفسه غير قادر على خلق بيئة أكثر أمانا للأطفال، أما بالنسبة للنساء فوضع المرأة الضعيف نوعا ما يزيد احتمال اضطهادها ولومها على ماحدث رغم كونها ضحية وليست جاني في مختلف تلك الحوادث.

وتضيف سليمى حول اغتصابات الاطفال المتفشية والعنف ضد الأطفال أمر موجود بكل المجتمعات، من زمن طويل ومنها المجتمع السوداني، لكنها طفت على السطح بسبب جرائم القتل المصاحبة. لكن يوجد عنف مجتمعي متأصل يضعف من مرونِتهم النفسية، ويجعلهم أكثر عرضة للانتهاك والعنف بأنواعه المختلفة. عنف وعدم قبول الطفل الناجي في المجتمع؛ وهو أيضا عرضة للإساءة اللفظية والجسدية والعاطفية المجتمع أصبح غير قادر على الحياة بصورة كريمة يدور الطفل في هذه الدائرة الجهنمية التي ترجع أسبابها للظروف الاقتصادية والسياسية المتدهورة وضبابية المستقبل المجهول.