حرب القطط السمان وقضايا بلا مدان
في حلقة جديدة من حلقات استخدام الحرب على الفساد لتصفية الخصوم السياسيين، أعلن الرئيس السوداني، عمر البشير، ما سُمي بالحرب ضد “القطط السمان” منذ بداية العام الحالي منذ بداية التحضيرات المختلفة داخل الحزب والدولة ومراكز القوى من أجل إعادة انتخابه في 2020 والصراعات التي طفت على السطح بالتزامن مع ذلك.
من الملاحظ ارتباط ظهور قضايا الفساد وفضائحه بين الإسلاميين السودانيين صعوداً وهبوطاً مع احتدام صراعات السلطة بين الأجنحة والتيارات المختلفة داخل النظام منذ استيلائها على السلطة في 1989م. وفي ذات الوقت، تتواصل سياسة التستر على فساد دوائر ومراكز قوى النظام خوفاً على المصالح المشتركة للنظام ككل في مظاهر أخرى مثل تجنيب الأموال وفقه التحلل وإجازة القروض الربوية الخ.
غير أن مراقبون ومعارضون يتسائلون عن عدم اتهام أي اسم بارز في النظام منذ إعلان حرب الرئيس على الفساد حتى الآن بارتكاب تهمة الفساد أو إلقاء القبض عليه وتقديمه لمحاكمة علنية وعادلة حتى الآن. يحدث ذلك التستر الممنهج في وقت تبرز فيه بعض الأسماء ذات الفعل الهامشي في صناعة القرار على مستوى الحكومة الحزب الحاكم على سطح فضائح الفساد في شكل أقرب إلى أكباش الفداء التي تقدم في ظل عجز الدولة عن المسير في خط محاربة الفساد حتى نهايته دون محسوبية.
وفي غضون ذلك وقعت أحداث مفجعة كشفت عن وصول صراع الاجنحة داخل النظام إلى مرحلة غير مسبوقة قادت إلى وفاة رجل أعمال مقرب للنظام في ظروف غامضة داخل حراسات جهاز الأمن والمخابرات الوطني، الذي تحدث بدوره عن انتحار هذا الرجل، الذي كان هو نفسه مصنفاً من ضمن القطط السمان. فيما قال قانونيون إن الحملة الراهنة على ما أطلق عليه مصطلح القطط السمان تشهد تجاوزات قانونية خطيرة فى حق من طالتهم هذه الاتهامات وصلت الى درجة اتهام الجهات الرسمية باتباع أقسى الوسائل فى مواجهة من طالتهم هذه الاتهامات وهى دون شك تفتقد لمعايير المحاكمات العادلة والعلنية وحتى في إجراءات القبض والتحفظ.
التمكين والفساد الهيكلي
وثق المفكر السوداني منصور خالد في كتابه (الفجر الكاذب) لبدايات علاقة الإسلاميين بالدولة السودانية، واستغلالهم لثرواتها إلى جانب تجيير قوانينها لصالحهم. ويقول خالد أن تلك العلاقة بدأت في النصف الثاني من السبعينيات، وذلك على خلفية إتفاق المصالحة الوطنية الذي أبرمه الرئيس السوداني الأسبق جعفر نميري مع المعارضة السودانية وضمنها الإسلاميين في العام 1977. ومنذ ذلك الحين، بدأ تغلغل الجماعة في أطراف الدولة بالتركيز على جانب الإقتصاد والمال واستغلال النفوذ والتشريع بما يخدم مصالح عصبتهم، فتأسست البنوك الإسلامية التي كانت تنال قسطاً وفيراً من عدم المراجعة الحكومية، وتم وضعها خارج نطاق مسئوليات بنك السودان المركزي، بحجة أنها تحرم الربا وجاءت بالجديد غير الذي كان في ذلك العهد، الذي وضع فيه الإسلاميين بداية أقدامهم في سلم الترقي لأعلى مراتب التشريع والتنفيذ، والمفارقة أن ذات العصبة عادت الآن للتحدث عن جواز القروض الربوية.
هذا التأسيس لجماعة حسن الترابي وتلاميذه، بعد أن انقسموا عن بقية مكونات التيار الإسلامي التي أعلت من شأن التربية التنظيمية على حساب السياسية، لكن مجموعة الترابي كان لها رأي آخر ورفعت شعار السياسة أولا، وولجت إلى باب الاقتصاد من مدخل التمكين والسيطرة على مراكز السلطة والثروة. مجهودات تلك الفترة كانت هي حجر الزاوية لبناء عهد التخطيط للتمكين، الذي تمخض عنه التمكين الحالي، وهو ما مهد الطريق أمام كل ما يعرف الآن في البلاد بالفساد، المُراد محاربته والقضاء عليه.
ويذهب الخبير الاقتصادي الاسلامي خالد التجاني في ذات الاتجاه مؤكدا أن الحركة الإسلامية منذ نشأتها لم تعرف الاهتمام بالجوانب الاقتصادية، فلم يكن لديها برنامج اقتصادي الى ان اتى د. حسن الترابي باستراتيجية التمكين، وهي متعلقة بالاقتصاد أيام المصالحة الوطنية مع نظام الرئيس الأسبق جعفر نميري في العام 1977.
ويقول التجاني في مقابلة سابقة مع شبكة (عاين) ان الحركة الاسلامية عملت على مضاعفة مصادر تمويلها خلال الفترة التي تلت المصالحة الوطنية عن طريق تحالفها مع نظام نميري الذي فتح لها بقيادة الترابي فرصة الاستفادة من البنوك الاسلامية مثل بنك فيصل الإسلامي وغيرها.
بينما يعتبر أستاذ الإقتصاد بجامعة الخرطوم، حسن بشير، أن “ما يعرف بالتمكين الذي مارسته حكومة الإسلاميين منذ استيلائهم على السلطة هو أهم أسباب انتشار الفساد”، وأضاف بشير في حديث لـ(عاين) أن الفساد في السودان هو “أخطر أنواع الفساد ويعرف بالفساد الهيكلي”، موضحاً أن السياسات التي وضعتها الحكومة منذ تلك الفترة مثلّت مداخل أدت لانتشاره ومن أبرزها كان “خصخصة المؤسسات الحكومية، الحصول على التمويل والتسهيلات من البنوك للمقربين وأصدقاء التنظيم وقياداته، بالإضافة إلى استغلال النفوذ، وانعدام حرية الإعلام والشفافية”.
السودان يحتل المرتبة الخامسة ل2017 في قائمة اكثر الدول فسادا حسب منظمة الشفافية الدولية – http://bit.ly/2Opmfwo
تصفية عبر تقارير المراجع العام
فيما بعد اتفاقية السلام الشامل (نيفاشا) عام 2005م، وبداية المرحلة الانتقالية، بدأت قضايا وتقارير الإعتداء على المال العام تطفو إلى السطح بشكل غير مسبوق في الساحة السياسية منذ فجر حكومة البشير، وظلت الصحف السودانية تتناول بشكل مكثف القضايا التي ارتبطت ببعض أهم قيادات الإسلاميين في السودانية حتى تم إخراجهم تماماً من ساحات الفعل السياسي، داخل المنظومة الحاكمة.
وكان أبرزهم على الإطلاق هو عبدالحليم المتعافي، الذي لاحقته الفضائح المالية منذ أن كان يجلس على مكتب والي ولاية الخرطوم وإلى ما بعد ذلك حين كان وزيراً لوزارة الزراعة.
وعلى هذا النسق، خرجت في تلك الفترة التقارير من مكتب المراجع العام ملقية بعدد كبير من قيادات الاسلاميين بعيداً من دوائر صناعة القرار، وكان من ضمنهم بالإضافة إلى المتعافي، الوالي الذي تبعه في مكتب ولاية الخرطوم، عبدالرحمن الخضر، الذي بلغ حجم الاختلاسات من موظفي مكتبه 900 مليار جنيه. وتوالت فضائح الفساد فخرجت إلى الإعلام قضية بيع خط سودانير المتجهة الى هيثرو دافعة باسم جديد متورط في الفساد وهو الشريف أحمد عمر بدر. وزادت القائمة الفاسدة ووصلت وحدة تنفيذ السدود، وإلى أقرب المقربين من مدير الوحدة أسامة عبدالله وهو عبدالعاطي هاشم الطيب الذي قام بتحويل 170 مليون دولار خارج البلاد دون المرور عبر بنك السودان. وفي الأثناء، جاءت قضية شركة الأقطان الشهيرة والتي تعد إحدى أكبر فضائح الفساد منذ قدوم الانقاذ الي السلطة، وذلك لما صاحبها من كمية الوثائق والمعلومات واتساع دائرة الادانة في تلك القضية لعشرة أشخاص من قيادات الإسلاميين على رأسهم مدير الشركة عابدين محمد والإسلامي المعروف محي الدين عثمان. بل وطالت الاتهامات في قضية الأقطان وزير المالية الأسبق بدر الدين محمود، قبل أن تبرئه المحكمة كما صاحب تلك القضية فضيحة أخري ارتبطت بالتسوية المالية التي أجريت بين شركة ميدكوت التي يملكها محي الدين عثمان وشركة الأقطان مقابل دفع الأولي 100 مليون جنيه وتمت التسوية تحت إشراف وزير العدل الأسبق عبد الباسط سبدرات. وعند التمعن جيداً في هذه الأسماء نجد انها جميعاً خارج دائرة الفعل السياسي في الوقت الراهن.
حماية الفساد
ويعتبر الطيب زين العابدين، أحد أبرز قيادات الإسلاميين السودانيين، أن هنالك صراع كبير بين مكونات التنظيم ولكنه “لا يصل إلى الرئيس البشير أو أسرته أبداً”. وأضاف زين العابدين في تصريح لـ(شبكة عاين) أن معظم المتهمين في كل القضايا السابقة الآن خارج السجون “إلا قلة قليلة”، مستشهداً بما حدث في قضية فضل محمد خير، نائب مدير بنك الخرطوم ورجل الأعمال الشهير وعضو البرلمان، موضحاً أن “حجم ما قبلت به الحكومة وهو 50 مليون دولار بعيد جدا من حجم المطالبة الذي كان 700 مليون دولار”، معتبراً أنه أمر غير منطقي “وكما لو أن الحكومة أرادت أن تأخذ من الناس أمولاً”.
وفي ذات الإطار يشير أستاذ العلوم السياسية بجامعة أمدرمان الإسلامية، أشرف عثمان، أن “الطابع الأساسي للحرب على الفساد أرتبط بتصفية الحسابات بين بعض الحكومة والبعض الآخر منها”، لافتاً في حديثه لـ(شبكة عاين) إلى بروز التيارات التي يقودها أكبر القادة أمثال نافع علي نافع وعلي عثمان محمد طه، ووضوحها عند الحديث عن مكافحة الفساد.
وفي ذات الاتجاه يشير الخبير الاقتصادي الاسلامي خالد التجاني إلى أن قواعد اللعبة السياسية داخل وخارج التنظيم تغيرت تماما بوصول الإسلاميين الى السلطة، وبدأ الخلافات تتعمق من خلال محك السلطة وإدارة الدولة ومصالح ومطامح الأفراد أو القيادات.
التحلل واستغلال الدين
ووسط هذه التطورات، برزت مادة التحلل إلى سطح الأحداث المرتبطة بقضايا الفساد في أعقاب قضية مكتب والي ولاية الخرطوم، عبدالرحمن الخضر، وثار جدل كثيف حولها على الرغم من أنها كانت أصلا موجودة ومتضمنة في قانون الثراء الحرام والمشبوه لسنة 1989م، وعلى الفور، سارع العديد من البرلمانيين والقانونيين إلى المطالبة بإسقاط هذه المادة من القانون التي قد تصبح مطية لآخرين، بيد أن لجنة قانونية رفضت إسقاط هذه المادة، وقالت نائبة رئيس البرلمان في ذلك التوقيت، سامية أحمد محمد، في تصريحات للصحفيين نهاية نوفمبر 2014 أنه “لم نجد خللاً في قانون الثراء، ومادة التحلل منصوص عليها في جميع القوانين العالمية”، مبينةً أن “المشكلة في التطبيق”.
وكان تقرير وزير العدل، عوض حسن النور، بالمجلس الوطني في منتصف مايو 2016 كشف عن أن العام 2015م شهد تلقي وزارته 150 شكوى حول الثراء الحرام والمشبوه، صدر قرار بالتحلل في 25 شكوى منها.
وقبل أشهر قليلة طالبت عدد من رجال الدين اضافة لهيئة علماء السودان من الأجهزة العدلية حسم قضايا الفساد بعيداً عن “التحلل”، وقال رئيس الهيئة، محمد عثمان صالح في يوليو الماضي “أن عدم حسم قضايا الفساد بالسرعة المطلوبة يضع البلاد بأسرها تحت رحمة القيل والقال ويضعف صورة الدولة”، مشدداً على ضرورة تعديل القوانين والتشريعات المتعلقة بمكافحة الفساد، وداعياً الدولة في أعلى مستوياتها إلى الجدية في أمر مكافحة ظاهرة الفساد”.
ملاحظات
عند النظر للأخبار الحالية المرتبطة بالحرب على الفساد، يلفت الطيب زين العابدين في حديثه لـ (عاين) إلى وجود ملاحظات في مواضيع جوهرية متعلقة بهذه الحملة تقدح في مصداقيتها وتثير شكوكا بشأن جدية الحكومة في محاربة الفساد، مبينا أن أولها على الإطلاق هو “عدم تشكيل مفوضية مكافحة الفساد رغم إجازة قانون محاربة الفساد في البرلمان منذ أكثر من عامين، وبالتالي أصبح جهاز الأمن هو المسئول عن هذا الأمر”، وشدد زين العابدين على أنه “خطأ كبير ويدعو للشك في نوايا الحكومة والرئيس لجهة أن جهاز الأمن في الأساس هو جهاز حزبي”.
ومن جانبه أعتبر أستاذ الاقتصاد حسن بشير أن الحرب على الفساد ترتكز على جوانب مترابطة ببعضها ولا يمكن فصلها، موضحاً أنها “جانب الضبط المالي مقترناً باستقلالية القضاء والمساواة أمام القانون، بالإضافة إلى فصل السلطات وبسط حرية الإعلام والتعبير”، مشدداً على ضرورة “توفر جو ديمقراطي حقيقي لمحاربة الفساد”.
وأتفق أستاذ العلوم السياسية أشرف عثمان مع ما تقدم، مضيفاً أنه يجب تجفيف المنابع في البداية ومن ثم الحديث عن محاكمة المفسدين، مبيناً أن “المنابع هنا مقصود بها حدوث معالجة أشمل في المناخ العام، تتمثل في حدوث إصلاح إداري وسياسي”، وأكد أشرف على أن أهم عنصر في أي حملة لمحاربة الفساد هو “ضمان حرية الصحافة والإعلام”.
حماية أسرة الرئيس
أستاذ العلوم السياسية أشرف عثمان، أستعرض قراءة بعيدة عن كل ما تقدم لهذه الحرب المعلنة على الفساد، قائلا أن “هذا النظام فقد شرعيته الأيدلوجية بعد مفاصلة الرابع من رمضان وذهابه بعيداً عن شيخه حسن الترابي”، مضيفاً أن “النظام بعد ذلك توكأ عصا النفط واتخذ شرعية الإنجازات والتبشير بالمستقبل شرعية جديدة مع مطلع الألفية الثانية”، موضحاً أن صيانة الشرعية الجديدة للنظام تقوم على مكافحة الفساد والمفسدين “ورمي اللوم عليهم في كل الأزمة الاقتصادية الحالية وضيق العيش على الجماهير”. وتوقع أشرف أن رئيس الجمهورية شخصياً سوف يقود هذه الحملة “وسوف تتصاعد وتيرة الحرب على المفسدين وتطال أعداد أكبر من قيادات الحزب الحاكم وشركائهم في المرحلة المقبلة”.
في الجانب الآخر، يقف هؤلاء الجماهير مترقبين حالة اقتصادية أفضل، وهم يقرأون يومياً عن أرقام كبيرة في بطون قيادات المؤتمر الوطني عادت لخزينة الدولة. وتقول بدور علي الحسن لـ(شبكة عاين) أن “هذه الأموال نقرأ عنها فقط ولا نعلم أين تذهب لأننا ببساطة لا نراها في شكل تحسين أي خدمات”. وأضافت بدور وهي ربة منزل تقطن الريف الشمالي لمدينة أمدرمان أنها “تعرف آخرين وكثيرين جداً غير الذين تسمع عنهم كانوا من بسطاء الشعب قبل هذه الحكومة واليوم يملكون العقارات الكبيرة والسيارات الفارهة ولا يوجد أحد يتحدث عن محاسبتهم وعن أنهم مفسدون”.
وفي هذه النقطة بالتحديد، اتفقت هذه المواطنة مع ما ذهب إليه الطيب زين العابدين، حين أشار إلى أن “الجميع يتحدث عن فساد أخوان الرئيس البشير ولا أحد يتحدث ولا تقرير يقول شيئ عنه”، معتبراً أن البشير هو الآمر والناهي والمحرك الفعلي لهذه الحرب ولا يوجد من يقف في وجهه، مضيفاً أنه “لو كان جاداً في محاربة القطط السمان والفساد كما قال عليه بتفعيل دور مستقل للقضاء وتشكيل مفوضية قومية لمكافحة الفساد وبكل شفافية”.