انهيار الحركة الإسلامية واستنفاذ أغراضها
عقب وصولها للسلطة عبر انقلاب عسكري في العام 1989. قامت الحركة الإسلامية بعدة أمور مفصلية لتوجيه الدولة السودانية، وفق الايدلوجية التي تؤمن بها. ولكن سرعان ما اختلفوا فيما بينهم؛ بعد أن أذاقوا الشعب السوداني أصناف العذاب؛ إغتيالات، اعتقالات، وتعذيب متعدد الأوجه طال الجميع، ثم حروب تسببت في انفصال الجنوب، ومازالت نيرانها مُشتعلة فوصلت مرحلة الاتهام بالابادة الجماعية لرأس الدولة بدارفور، ولم تضع أوزارها بعد بكردفان والنيل الأزرق. ثم تفرقوا الى احزاب ظلت تسحل بعضها البعض بالسجون وتمارس التعذيب والتشريد. التقت شبكة (عاين) بالمفكر الاسلامي والقيادي بالمؤتمر الشعبي (المحبوب عبد السلام) الذي أقر بمنهجية أحادية الحركة الإسلامية عقب انقلاب 1989 قائلاً لشبكة (عاين) “تيار الإسلام السياسي الذي يحوي الحركات الاسلامية جميعها، ويمتد من الغنوشي إلى البغدادي، قد استنفذ أغراضه”.
التمكين أضر بالحركة
بداً المحبوب بالتعليق على أكثر سنوات الانقاذ شراسة فترة التسعينات حيث قال “التمكين كان لتحقيق الحركة الإسلامية” معرفاً مصطلح التمكين بأنه اشتقه الترابي من القرآن، وهو ضمن الخطة الاستراتيجية للحركة الإسلامية لفتح آفاق لخطاب نبض الأمة وجداناً بالإسلام والخطوة الثانية هى إستلام السلطة. موضحاً إن” الذي أضر بالحركة هو التمكين انقلاباً، فالذين استلموا السلطة لم يشأُ أن يغادروها عندما طلب منهم ذلك“. وزاد خطة الحركة الاسلامية نظرياً تقول انه “خلال ثلاثة أعوام ينبغي أن يُغادر العسكر وتبسط الحريات“، ولكن هذا عملياً اصبح مستحيلاً في تلك الفترة. عام 1993 طُرحت على قادة الانقاذ ان يبسطوا الحريات وان يعيدوا التعددية كما كانت، فكانت الآراء معارضة. فانتظر الترابي حتى 1998 لبسط رؤية العودة الى الحريات التي قدمها عام 1996 لكنه رُفض بالإجماع.
واستطرد قائلاً “عادة أنت تظن أنه يمكن تحكم عندما تنظر الى واقع الحركة التي تقودها. فهي كان فيها مئات المختصين في مختلف المجالات التي تحتاجها الحياة العامة للحكم بكافة مسميات المهن. وكان لها وجود في القوات المسلحة، ففي الظاهر يمكن أن تقود البلاد وفق مبادئ الإسلام التي تهتم بحرمات الإنسان والمبادئ التي كانت تطرحها الحركة الإسلامية في مبدأها“. ولكن عندما جاءوا الى السلطة وجدوا أن الامر معقد وأن المحافظة على الدولة هو الهدف الأول، موضحاً أن هذا كان سبب فيما وصفه بالتفلتات “الإعدامات، بيوت الاشباح، الاعتقالات، كانت تتولاها أجهزة الحركة المختصة بمصادر الضبط والقوة، الاجهزة الامنية والعسكرية كانت تتولى تأمين هذه الثورة“. واستدرك المحبوب بالقول “ولكن هذا ليس بأدب قادة الحركة الإسلامية، وقادة الأجهزة الأمنية الذين تربوا في حضن المؤسسة العسكرية لهم تجارب وأفكار لم تتحول خلال الستة سنوات الأول من الانقاذ“. وأضاف المحبوب “طبقوا تجاربهم كما تطبق الانظمة الشمولية. إذا نظرت لكل التجارب الشمولية من حولنا صحيح ان نظام الانقاذ كان متوحشاً جداً في بدايته والانظمة من حولنا كانت ايضاً متوحشة؛ البعثية الناصرية او حتى انظمة افريقية… كما يقول غرامشي، إذا أخذت السلطة بالانقلاب فحينذً تمارس الممارسات التي تشبه طريقة مجيئك إلى السلطة“
إهمال الجنوب وقوانين سبتمبر
وفي الحديث حول اتفاقية السلام الشامل، والعلاقة مع الجنوب قبل الانفصال، قال المحبوب عبد السلام لـ(عاين) “نيفاشا كانت بين حزبين مع عزل الاخرين“، موضحاً انه كان يمكن لهذه الاتفاقية أن تعبر بالسودان الى بر الامان. واستشهد المحبوب ببند قسمة الموارد فيها إذا ما بُسطت قسمة الموارد كما الاتفاق لعبرت بالسودان، رغم أنها اتفاقية كانت تحتاج الى تعديل بسيط في بعض الأمور كوثيقة الحريات. واستطرد “لكن اتفاقية السلم اصبحت ليست شاملة فبدلاً ان تؤدي الى سلام شامل ووحدة جاذبة أدت إلى العكس؛ انفصال وحروب وجديدة“. وزاد انه لا يمكن أن تزرع الشوك وتجني العنب فكان لابد أن تُبسط الاتفاقية لكل السودانيين وان تُطبق في إطار ليبرالي لذلك “الانفصال كان نتيجة حتمية لطبيعة الاتفاقية، المفاوضين فيها، الموقعين عليها والعلاقات التي سادت بعدها، اكدت ان الجنوب بحاجة الى الانفصال“.
وقارن المحبوب بين اتفاقيتي نيفاشا والخرطوم للسلام قائلاً “نيفاشا جاءت عكس اتفاقية الخرطوم للسلام التي كانت فيها العلاقات جيدة بين رياك مشار ولام كول مع الحركة الإسلامية“، موجهاً في ذلك نقداً للحركة الاسلامية “هنا لابد من بعض النقد في الرؤية الإستراتيجية، فكان هنالك اهتمام بالجانب القانوني، ولكن سوسيولوجيا المثقف السوداني، طبيعة البيئة التي نشأ فيها المثقف السوداني، على وجه التحديد المثقفين الجنوبيين لم تحسب جيداً منذ قوانين سبتمبر 1983“. وأضاف المحبوب “ لكن حقيقة الأمر أن قرار قوانين 1983 جاء بها النميري ودفع بها في ليلة واحدة، مبدلاً مسائل أساسية. لأنه كان يعلم أن القوانين ستنسب الى الترابي اذا كان ظاهراً. فقام بعزله من وزارة العدل؛ ثم أتى بمُنظرين ليس للحركة الإسلامية علاقة بهم، لانه [النميري] كان يريد أن ينسب قوانين سبتمبر لنفسه بمشاركة بيوت صوفية، دون أن تكون هنالك وجوه إسٍلامية بارزة وقوية كالشيخَ الترابي“. فجاءت ردة الفعل في أول جلسة طُرحت فيها القوانين أمام البرلمان، انسحب كل النواب الجنوبيين؛ وهو ما لم يكن مُتوقعاً. وأضاف هذه كانت أول شرارة، بعد إلغاء اتفاقية اديس ابابا 1972، التي تظن الحركة الاسلامية أن لها الفضل فيها. وأوضح المحبوب أن “الحركة الاسلامية كانت تنظر للجنوب بأهمية، باعتباره جسرها لمد الإسلام، لذلك السلام واستقرار الجنوب كان مهم بالنسبة لها“، وعندما قُسم الجنوب الى ثلاثة اقاليم كان ذلك له وقع طيب عند الحركة الاسلامية لانه سيشكل جسرها للمد الإسلامي كاشفاً عن أن “الحركة الاسلامية لم تعارض قوانين سبتمبر 1983 من هذا المنطلق الفائدة باعتبار أنها ستستفيد منها مستقبلا، لان نميري ماضٍ لا محالة والقوانين هي التي ستقود المستقبل. نميري هو أنجز الهدم وتحمل ردة الفعل مقدما خدمة جليلة للحركة الاسلامية بنقله للقوانين نقلة عشوائية الى رحاب النقاش الاسلامي وعندئذٍ تستطيع تعديل القوانين، تضيف وتحذف فيها“.
الجهاد والتعبئة
وكانت الحركة الإسلامية قد دشنت مفهوم الجهاد، متعاملة مع مناطق الصراع في حرب لا طائل منها، مستنفرة في ذلك شباب يافعين إلى مناطق الحرب مما عرف (باعادة صياغة الانسان السوداني) وفي الحديث عن حقبة التسعينات التي شهدت افواجاُ من المجاهدين وتعبئة قائمة على العقيدة الدينية. يقول المحبوب “مناصري ثورة الانقاذ كانوا يعارضون اتفاق الميرغني-قرنق ويدعون للجهاد والاستشهاد، ولكن الثورة مهما يكن المناخ الذي استقبلها فإنها انتقلت بالحرب الى افق جديد لم يشهد تاريخ السودان“. وهي الفترة التي شهدت افواجاً من المجاهدين، من طلاب الجامعات في سن العشرين وما دونها. وبرزت فيها ثقافة عرس الشهيد. مدنيين تخرجوا من معسكرات قصيرة المدى دون أطر فكرية واضحه. ويعلق المحبوب على هذه الحقبة قائلاً “معسكرات الدفاع الشعبي كشفت عن قصور الأطر العسكرية الرسمية في الامكانات والخيال عن موافاة حاجة الثورة للجيش وبدأ تباين الرؤى بين العسكريين والمدنيين في مؤسسة الجيش التقليدية ونظرائهم التقليديين داخل قيادة الحركة الاسلامية، كذلك لم يصحاب حركة الجهاد والتجييش عطاء فكري فجمعت معسكرات التدريب أجيال مختلفة وخبرات متباينة“. مشيرا إلى أنه بعد استفحال الاقتتال بجنوب السودان، وضياع العشرات من الشباب في أدغال الجنوب اختتم الجهاد قصته بموت عزيز في الحرب مسند قوله بالمعارك التي تلت ظهور القوات الصديقة، والتي شارك فيها بعض قيادات الحركة الاسلامية الذين كانوا في معسكر لإعداد قادة المستقبل، لكنهم توجهوا الى جبهات القتال بدون سلاح املاً أن تتولى القوات المسلحة عملية تزويدهم بالسلاح فور وصولهم، موضحاً ان هؤلاء الشباب” كانوا لقمة سائغة استطعمته بسهولة شدة الاقتتال فمات نحو مئتي مجاهد دخلو المعركة عاد منهم بضع عشرات معظمهم مصاب اصابات خطيرة واختتم الجهاد قصته بموت عزيز في أدغال الاستوائية”.
الهوية والمفاصلة
وفيما يختص بجدل الهوية السودانية الدائر منذ أمد بعيد قال المحبوب “مشكلة الهوية داخل الحركة الاسلامية لم تكن مطروحة ولم يتم نقاشها بشكل جيد“، موضحاً أن التوجه كان حول الاقتصاد، القانون والتشريعات ثم الدستور، بعيداً عن عمق المجتمع السوداني والجذور المرتبطة بتاريخ ، فالحركة الإسلامية لم تدرس الأمر جيداً، مفضلة إحتكار السلطة لنفسها.
أما عن مفاصلة الإسلاميين التي أفضت لتيار المؤتمر الشعبي والمؤتمر الوطني، يرجع المحبوب اسبابها الى مطلب التعددية الذي كان يطرحه الشيخ الترابي، قائلا “الترابي كان يقول: يجب أن تسمحوا للشيطان أن يأتي من الخارج بدلاً أن يخرج منكم ويفرق بينكم” مؤكداً ان كل الخارجين مع الترابي يعتقدون أنه قد آن الأوان لمشاركة وتوالي سياسي، الأمر الذي كان يجد اعتراضاً كبير. اما الامر الثاني في الاختلاف كان من العسكريين تحديداً هو الحكم الاتحادي، أن يبسط سُلطة حقيقية للولاة وشعب الأقاليم، والثالث كان متعلق في العلاقة مع الجنوب، فهذه الثلاث هي جوهر الخلاف الفكري. كانت هناك حساسيات بين المدنيين الذين حول الترابي والذين يهتمون بالأفكار وحقوق الإنسان، وربطها بالجانب العسكري الذي توطدت علاقته بمحاور خارجية، مثل ايران او غيرها. كذلك بعض المدنين يحملون التفكير الأمني العسكري، الذي يريد أن يغبط السلطة ويسيطر عليها. فهنا برز صراع السلطة فكان مستحيل أن تستمر الحركة متحدة، مشيرا الى انه “كان هنالك امل ان نتفارق بالحسني، في اطار الكلمة والرأي، وهذا لايشبه طبيعة النظام القائم، ما ان قامت معارضة إسلامية قوية تحاول أن تختبر الحدود حتى جاء رد السلطات بأعنف مما كان على الاخرين، فكان الضرب اقوى وكان هذا واضح في قراءة هذه المآلات قبل المفاصلة“.
فصيل اسلامي مسلح
خرجت بعد المفاصلة حركات بقادة من صلب الحركة الإسلامية، يحاربون إخوة الأمس في إقليم دارفور. فصيل حركة العدل والمساواة، الذي استطاع ان يدخل قلب أم درمان في 2008، وكانت الحكومة السودانية قد اتهمت المؤتمر الشعبي بالمسئولية عن هذه الحركة، ولكن المحبوب عبد السلام نفي ذلك لـ(عاين) قائلاً إذا ما اهتز النظام الفيدرالي الذي نشأ من اوائل التسعينات، وعاد المركز إلى السيطرة على حقوق الاقاليم. فمن الطبيعي أن ينهار الأمل في الوسط والأطراف، وتتجدد المشكلات المعروفة منذ الاستقلال. والمتوقع أن الطرف الذي كان أكثر وعياً ومشاركة في الانقاذ هم دارفور وليس الجنوب. فما أن نُقضت العُرى، التي كانت تُعبر فعلاً عن طبيعة العلاقات داخل النظام، حيث كانوا كلهم ينتمون الى فكرة تساوي، أشبه بالتنظيم المدني المعاصر. ولكن مع الانقاذ برزت المكونات الاولية القبلية والمنطقة قبل السياسة؛ فبرزت الجهوية، والمناطقية، فالقبيلة؛ وأصبح كل إنسان ينظر إلى وجودة الإقليمي المحلي والعرقي. هذا الأمر بدأ قبل المفاصلة فخرجت شريحة لا تؤمن بالعمل المدني، فجاءت المفاصلة مؤكدة هذا الأمر. لكن جزء من الحركة الاسلامية كان يؤمن بأن هذا السبيل لا يؤدي إلى الخلاص لابد من حمل السلاح، لأن المأساة تكررت بوسائل كارثية. “حركة العدل والمساواة غالب قادتها كانوا من الحركة الاسلامية، لكنها نمت مستقلة، وتبنت أفكار مستقلة، لم تكن معروفة في الحركة الاسلامية. أسبابها هي عدم التعدد وعدم الاعتراف بالآخر. وغيرها فيما يتعلق بالتنمية المتوازنة “خليل ابراهيم انتهي الى ان هنالك مركز مسيطر بعد ان طاف السودان وعرف بواطن الامور بسبب توليه لادارة الفقر بالحركة الاسلامية … المشكلة في الخرطوم لابد من تحويل هذه المظلمة الى معادلة“.
المشاركة في الحكم الحالي
وعن مشاركتهم في السلطة الحالية قال المحبوب ان المؤتمر الشعبي جزء من الحوار الوطني. كانت له طموحات واسعة اغلب هذه الامال انحسرت وخابت؛ وأصبحت مشاركة الشعبين مشاركة رمزية في السلطة بعدد محدود من الوزراء. كاشفاً عن أن الحركة التي يقودها الشيخ الزبير، هي حركة الآن قادتها وهم قادة المؤتمر الوطني انفسهم يعيدون النظر فيها؛ ويعتقدون بأن لابد من مراجعة وضعها بحيث تكون لها رسالة جديدة. حسب قرار اللجنة التي راجعت هذا الأمر فهي إما أن تندمج في المؤتمر الوطني، أو تصبح منظمة تعمل في العمل الطوعي كمنظمة عمل مدني، أو تحافظ على الوضع الحالي أغلبهم يميلون للمحافظة على الوضع الحالي.
قيادات جديدة
وعن مستقبل السودان قال المحبوب ان ثورة المعلومات بدلت جوهر العلاقات الانسانية، هي وسائل لكنها بدلت جوهر العلاقات اقليماً ودوليا. ويرى المحبوب أن الذين يقودون السودان الان تجاوزا الأربعين، ومنهم من بلغ الـ80 مازال يقود، ولكن الثورات الرقمية سببت تبدل في العلاقات الدولية. وأضاف انه لا بد من رفع الأجيال الشابة للقيادة لأن هناك تبدل حقيقي أحدثته هذه الوسائل، ولكن أحدثته أفكار ورؤى احيانا تلهم الاراء الوسائل، واحياناً تؤثر الوسائل تأثير بالغ على الرؤى. ويتابع المحبوب “الان البشرية تتبدل من اساسها، وهذا تحدي حتى امام الاسلام وامام الفكر الإسلامي وأمام تجديد الإسلام، الذي يأخذ أبعاد غير الإحياء الذي كان في القرن العشرين مع البنا ومحمد عبدو، هذا يستدعي تغيير كبير”.
كما يقول المحبوب “لابد من بروز أفكار جديدة متعلقة بطبيعة هذه الحركات التي تستطيع اطر الدول الحديثة أن تستوعبه“. ولتفادي انهيار الدولة السودانية طالب المحبوب بتسوية سياسية شاملة، قائلا “لابد من تسوية سياسية متفاوض عليها، تجعل مشاركة الحكم مُتشارك فيها مشاركة حقيقية وليست شكلية“. وحدد المحبوب جغرافية مشكلة السودان بأنها في الخرطوم وليس الاطراف، واضاف “اذا وصلنا الى معادلة من هذا القبيل يمكن أن نجنب السودان الانهيار، وهو ما لم يتأتى إلا ببسط كامل للحريات، بتصالح ضخم بين الكتل السودانية من القوى السياسية التي تحمل السلاح والتي تعمل في السلم بالممارسة المدنية“.