النفايات الالكترونية: غياب الرقابة وتورط المسئولين

تقرير شبكة عاين – الخميس 2 أغسطس 2018

في مساحة تغطي 24 كيلو متر، في منطقة البتيرة الواقعة في محلية الترتر بولاية جنوب كردفان، لم يستطع انسان كان أو حيوان من قطع هذه المسافة دون أن يصاب بدوار ويفقد بعض الناس الوعي تماما فيتساقطون في الأرض. ظاهرة شكلت ازعاجاً كبيراً للسكان فكانوا يطلقون على هذه المساحة ببيت الشيطان. ولكن في العام 2003 وبعد عمليات مسح عملية قام بها أخصائيون في الكيمياء تم التوصل إلى أن المنطقة بها نفايات مخبأة في باطن الأرض تعود إلى ثمانينيات القرن الماضي أيام فترة حكم الرئيس الأسبق الراحل جعفر نميري.

ويقول مالك الزين مهندس كيمياء كان يعمل ضمن الاخصائيين الذين اكتشفوا حقيقة النفايات، “عملية دفن النفايات بمنطقة شمال شرق البتيرة تمت بعناية في منطقة غير آهلة بالسكان، وليست هي بطريق معبد للمارة، وقدرها ب بحوالي 600 طن، وزاد ان مع زيادة التمدد السكاني وصل الناس الى المنطقة وظهرت أعراض مباشرة على الإنسان والحيوان وهي ذات المنطقة التي ضربها الجفاف بسبب موت الأشجار. ويضيف مالك لـ(عاين) “لم يتوصل التيم الى معرفة نوعية النفايات رغم وجود بعض اجهزة التلفونات قديمة الاستعمال والتي تعود الى حقبة زمنية طويلة، وبعض أجهزة الطباعة التايبست” تحولت الى اشعاع أضر بالنبات قبل الإنسان والحيوان .

ذات الحديث أكده المواطن ادم عبدالله وهو من أبناء المنطقة. ويقول عبدالله في حديث لـ(عاين) “ما كنا عارفين بنقول ده الشيطان، ماتو لينا اكثر 100 راس؛ غير الناس البتم نقلهم للمستشفيات لكن مافي زول مات، فالناس فضلت ان تبعد من المنطقة حتى البهائم وهي لي هسي منطقة فاضية” ورغم اكتشافها لم تحرك سلطات الولاية او الحكومة القومية ساكن في استخراجها.

إقرار حكومي

ولا تعد ظاهرة منطقة البتيرة الوحيدة في البلاد، اذ ظلت الحكومة السودانية تسمح بدفن النفايات بأنواعها المختلفة لفترات طويلة، لكن ضعف تسليط الضوء الإعلامي على الأمر جعله في طي الكتمان، رغم ظهور آثاره الصحية على الإنسان في عدة مناطق.

برزت قضية دفن النفايات في الأراضي السودانية في الاعلام السوداني عقب الإطاحة بنظام الرئيس الأسبق جعفر نميري عبر انتفاضة أبريل 1985، حيث اتهمته العديد من الصحف المستقلة والحزبية بدفن نفايات ذرية في عدة مناطق بالبلاد، ضمنها صحراء الولاية الشمالية. ومع أحجام الحكومة الديمقراطية عن الاهتمام بالأمر، طوته صفحات النسيان رغم استمرار آثاره على الأرض وسط أبناء الولاية الشمالية.

وعادت قضية دفن النفايات الى سطح الاحداث مرة أخرى منذ العام 2008، حيث دفع تفاقم المشكلة بعض الخبراء والمسؤولون الحكوميون للحديث علنا عن الظاهرة التي تفتك بالبيئة والصحة العامة في البلاد في ظل عجز وصمت يرى فيه البعض تواطئا من قبل الاجهزة الرقابية الحكومية في السودان.

ويعزي البعض الصمت الحكومي عن هذه الجريمة لتورط نافذين في حكومة الإنقاذ بالسماح لهذه النفايات بدخول البلاد في إطار صفقات غير معلنة مع الكثير من الدول بينها الصين وبعض دول الخليج.

ويرى اخرون ان الحوجة الماسة لحكومة السودان لمنافذ تخرجها من أتون التدهور الاقتصادي الخانق الاقتصادي ربما تكون الدافع الأكثر حسما تجاه قبول دفن النفايات في أراضي كثيرة من السودان فهل سيكون الأمر الى تحويل السودان لمكب نفايات؟ وتجيب وزارة البيئة السودانية على السؤال بتأكيد، مقرة بأن السودان قد تحول بالفعل إلى مكتب إقليمي للنفايات بمختلف أنواعها لا سيما الالكترونية منها والتي يؤكد خبراء ان الاف الاطنان منها قد وصلت البلاد بالفعل وما يزال تدفقها مستمرا تحت لافتات عديدة.

تلوث وأمراض

تسبب النفايات الالكترونية اضرار بالغة بالبيئة، اذا انها سبب رئيسي في اصابة الانسان بالسرطان – الالتهابات الجلدية والتهابات الصدر، التهاب اليرقان، السحايا وتؤدي الى تلف الكلى. فمنذ العام ٢٠٠٩ نبه مختصون في السودان الى أن البلاد في طريقها لان تتحول الى مكب للنفايات الالكترونية، وبدأت بالفعل اكتشافات مثيرة وقتها لهبات دول خليجية لمشروع محو الامية الالكترونية الذي يديره نافذون وان كل الاجهزة التي دخلت الى البلاد كانت عبارة عن نفايات الكترونية.

زادت وتيرة التحذيرات الحكومية وهيئاتها المتخصصة، لكن الحال ظل على ماهو عليه وما زالت ابواب البلاد مشرعة لتلقي المزيد من هذه النفايات؛ وبعد كل هذه السنوات أقرت وزارة البيئة بأن البلاد تحولت الى مكب بالفعل. وحذر مدير الطاقة الذرية من الامر وقال “ان اجهزة مشروع الحكومة الالكترونية عبارة عن نفايات.جاء ذلك رغم التحذيرات المتواصلة من ضرر النفايات الالكترونية بالسودان. وتصدر النفايات من دولة المنشأ الى السودان بعد اعادة تدويرها مع قبول الحكومة السودانية بذلك رغم اتفاقية بازل التي تنص على إعادة كافة النفايات الى دولة التصنيع.

غياب التحقيقات

احجام الحكومات السودانية المتعاقبة بالفعل عن التحقيق في اتهامات أطلقها عدة خبراء بسماح نظام الدكتاتور السوداني الأسبق جعفر نميري بدفن نفايات ذرية في صحراء شمال البلاد أطلق العنان للشكوك بتورط مسئولين بينهم الرئيس الأسبق شخصيا في السماح بدفن تلك النفايات.

وتروج الأحاديث بشكل واسع وسط السودانيين عن التأثيرات القاتلة لهذه النفايات على صحة الإنسان والبيئة في الإقليم، ما أدى لتزايد مريع في انتشار أمراض السرطان والفشل الكلوي.

وفي مثال مشابه يروي مواطنون بمدينة الحصاحيصا بولاية الجزيرة عن أحاديث واسعة الانتشار بدفن مخلفات ونفايات طبية بالمنطقة منذ العام 2005.

ويقول المواطنون في استطلاع أجرته (عاين) ان ظواهر غير مألوفة بدأت في الظهور بالمنطقة مثل ارتفاع نسبة حميات الأطفال بشكل غير طبيعي اضافة لارتفاع وفيات الاطفال، ولادة أطفال مشوهين اضافة لارتفاع نسبة الإصابة بالفشل الكلوي نتيجة لحالة التلوث المرتفعة سبب النفايات.

وظل خبراء بيئيون وجمعيات مثل الجمعية السودانية لحماية البيئة يدعون إلى إجراء تحقيقات محايدة وشفافة من قبل جهات مختصة باستخدام تقنيات حديثة للتأكد من الادعاءات والتهم التي ترود وسط المواطنين. وحذر الخبراء بأن حالة الصمت والتجاهل الحكومي تلقي ظلالا كثيفة من الشك بصدق الدعاوى التي تحدثت عن دفن تلك النفايات. ويشدد هؤلاء بان اجراء تحقيق في الأمر يعد حقا دستوريا وقانونيا لكافة المواطنين السودانيين الذين يقطنون تلك المناطق لما للأمر من آثار كارثية على صحتهم، مشيرين الى مصادقة السودان على مواثيق اقليمية ودولية عديدة تجعل من اجراء مثل هذا التحقيق التزاما دوليا لا مفر منه.

تخبط حكومي

وفي العام 2008 تحديدا أثير نقاش حول القضية بعد دخول آلاف الأطنان من النفايات الإلكترونية بحسب منظمة مستقلة متخصصة في المجال، لصالح مشروع محو الأمية التقنية الحكومي. وتكتمت الحكومة وقتها على أشهر قضية تورط أكثر من (30) وزيراً في فضيحة دخول نفايات إلكترونية مسرطنة للبلاد نهايات العام 2009م، وتلقيها كهبات من دول عربية لصالح مشروع محو الامية التقنية ومشروعات خيرية أخرى أشرف عليها وزراء في الحكومة.

وواجه مفجر القضية وقتها خبير الجودة واعادة تدوير النفايات نزار الرشيد، والذى قاد حملة للتوعية بمخاطر النفايات، تهماً بتضليل الرأى العام وجرت محاكمته على أساسها، ويقول أن “إثارة القضية في وقت سابق وتفاعل الرأي العام وجهات حكومية معها ايجاباً دفع بنا الى السجون لجهة أننا تسببنا في ذعر للشعب السوداني“، ولم تفكر الحكومة وقتها في أهمية معالجة القضية الخطيرة وفقا لإفادات الرشيد. وأكد الرشيد أن حجم الخطر يتزايد في ظل تخبط حكومي لإدارة الأزمة لجهة أن هناك تقاطعات ومصالح جهات تبطئ عملية المعالجة التي لابد أن تتم بشكل سريع.

مكب للنفايات

ويقول خبراء انه ومنذ تاريخ دخول آلاف الاطنان الى البلاد في العام 2008 وحتى اللحظة ما زالت تدخل النفايات الخطرة الى البلاد عبر المنافذ التي يفترض أنه يتواجد بها حراس حكوميين الجمارك – المواصفات والمقاييس. وهذا ما أفادت به وزارة البيئة مايو الماضي، والتي قال وزيرها عمر مصطفى، أن البلاد اصبحت مقراً للتخلص من النفايات الإلكترونية للدول الصناعية، وأضاف خلال ورشة بمجلس تشريعي ولاية الخرطوم: “أرخص موبايل في العالم موجود بالسودان“، فيما أرجع ذلك لغياب دور المواصفات والجمارك، فضلاً عن تزايد عمليات التهريب؛ قبل أن يشير إلى أن الدول الصناعية تتخلص من نفاياتها الالكترونية في الدول النامية والمتخلفة. وكشف مصطفى عن تراكم النفايات الالكترونية وقال إنها تبلغ (180) ألف طنا، فيما يبلغ إنتاج البلاد من النفايات الالكترونية (15) ألف طن سنوياً. كما أقر مدير هيئة الطاقة الذرية بالسودان عامر عباس، في ذات الورشة، بأن الحكومة نفسها سمحت بإدخال نفايات عبر ما يسمى بالحكومة الالكترونية ومشروعات أخرى لم يسمها.

الحكومة بلا احصائيات

ويشتكي الخبير في مجال النفايات الالكترونية والاتصالات، د. الطيب مختار، من جهل الحكومة السودانية بمسألة النفايات الالكترونية. ويقول لـ(عاين) “السودان الآن يستقبل بجهل مسؤولية هذه النفايات الخطرة بحيث تدخل الى البلاد أطنان من هذه النفايات دون اتفاق لعودتها إلى أرض المنشأ.” ويضيف “من غير المعقول أن لا تكون هناك اتفاقيات لعودة النفايات الى مصادرها الاصلية الموجودة في بلدان اصلا لديها مكبات وآليات لإعادة تدويرها“.

وأشار الطيب إلى أن الحكومة ليست لديها احصائيات رسمية عن حجم النفايات. ويضيف قلقلا “مسؤولون حكوميون قبلوا هبات من دول عديدة لأجهزة عبارة عن ‘إسكراب’ أرادت هذه البلدان التخلص منها في السودان .. قبلها مسؤولينا مع احتفالات وتهللت أسارير .. فلا رقابة في المواصفات او في اي مكان آخر على الأمر“. ويزيد الطيب “هذا امر كارثي وما يزيده كارثية هو عدم وجود خطة حكومية واضحة لمعالجة مسالة النفايات الالكترونية“.

تلوث الأرض والمياه

وتحذر دراسة أجرتها منظمة الشفافية السودانية، من المكونات الصناعية لمتعلقات اجهزة الاتصالات والتي تحتوى على آثار ضارة إذا لم يتم التخلص الآمن منها. وتشير الدراسة الحديثة والتي تلقت (عاين) نسخة منها، الى إحصائيات تتحدث عن أن 90% من السودانيين يمتلكون هاتفا سيارا. وتنوه الدراسة افتراضا بأن عمر الجهاز 4 سنوات فهذا يعني تقريبا، إضافة 11 مليون جهاز سنويا الى النفايات الالكترونية بما فيها من الخواص السمية.

فمثلا بحسب الدراسة، فإن كل انواع البطاريات تحتوي على مواد سامة 45 مليون جهاز يعني 4­5 مليون بطارية قابلة لاعادة الشحن، ومن قبل كانت تُستخدم للبطارية مادة النيكل لثقلها استبدلت ببطاريات الليثيوم الشائعة اليوم ليتحول الهاتف الى قاتل صامت.

وعمر البطارية يختلف من هاتف لآخر حسب التقنية وطريقة الشحن تقديرا في المتوسط – ثلاث سنوات. لكن دراسات أثبتت أن المادة الموجودة في البطارية الواحدة الكادميوم تكفي لتلوث 3600 متر مكعب من المياه، وتلوث الجو إن أحرقت، وترشح المعادن الثقيلة في التربة في مواقع دفن النفايات.

وتقول الدراسة وفقا العملية الحسابية فإن هناك حوالي 45 مليون بطارية لكل ثلاث سنوات، يعني 15 مليون بطارية كنفايات في العام أي أنها يمكن أن تلوث 54 مليار متر من المياه وهذا ما يسحبه السودان من مياه النيل – حوالي 12 مليار متر – من جملة حصته التي تساوي 18 مليار. أي يمكن لهذه البطاريات أن تلوث حصة السودان لثلاث سنوات وما يسحبه ل 4 سنوات ونصف.

خطر البطاقات

وتنبه الدراسة أيضا، إلى خطر استخدام البطاقات على صحة الإنسان. وتقول إن “أكثر البطاقات استخداما، قيمة 5 ج هنالك حوالي 16 مليون بطاقة ( تقديرا كل 2 بطاقة ) أو حوالي 10 مليون بطاقة إذا افترضنا 3 أشخاص للبطاقة الواحدة) يتم ( كشطها ) يوميا ورميها، أو إستخدامها بواسطة الأطفال للعب ، أو النساء في الحناء وصناعة ( الكسرة )”. وهذا يعني ان نصف السودانيين تقريبا أو ثلثهم ، معرضون لخطر هذه البطاقة عند إستخدامها خطأ، وأكثر من ذلك بعد رميها.

وتشير الدراسة، إلى أن تقارير طبية تحذر من إستخدام اليدين في كشط بطاقات شحن الهاتف السيار نظرا لما تحتويه من مادة الرصاص التي تسبب سرطان الجلد والرئة ، فهي تسري بالدورة الدموية ويترسب جزء كبير منها المخ والكلى والعظام فتكون لها تأثيرات ضارة على جسم الانسان خاصة الحوامل ، ثم إن مادة الرصاص تنفذ إلى الحامل من خلال المشيمة، ويسبب ذلك تأثيرات متعددة على الجنين، كما أن الأطفال الذين يتعرضون لهذه المادة عند وضع أيديهم على بطاقات الشحن ثم على أفواههم، معرضون لنقص مستوى الذكاء وصعوبة التعلم ونقص حاسة السمع ، كما يمكن أن يؤدي التعرض لمادة الرصاص على المدى البعيد إلى أضرار على الجسم تتمثل في آلام البطن ضرر في الكلى والجهاز العصبي بجانب ارتفاع ضغط الدم والإصابة بالانيميا في بعض الاحيان والمفاصل والغيبوبة، ثم أن الخدش أو الكشط بالآلة لايعني عدم تواجد بقايا الرصاص.

تساؤلات بلا إجابات

ويتساءل خبير النفايات الطيب مختار، عن ما هي الجهة المعنية بحماية حقوق وصحة وسلامة المواطن السوداني ولمن يشتكي وكيف؟ويضيف “هناك اتفاقية بازل الدولية الخاصة بالنفايات الإلكترونية وتقضي بإعادتها للمنشأ بعد إنتهاء صلاحيتها السودان وافق عليها منذ التسعينات ولكن ..

ويقول مختار لـ(عاين) “التدوير يكلف 10 أضعاف الثمن، لذا تحاول دول المنشأ أو بعض الدول المقتدرة التخلص من أجهزتها الإلكترونية التي تود استبدالها بجيل أحدث، ( بإهدائها) إلى دول أكثر فقرا، فتصبح تلك الدول على غفلة منها مكبا للنفايات الإلكترونية.”

وينتقد الطيب تجاهل الحكومة أمر النفايات الالكترونية، ويقول “ما يصرفه المواطن السوداني على المحادثات ولا يدفعه ضريبة مقابلها للحكومة -تقدر ضريبة القيمة المضافة فقط بحوالي 600 مليون دولار سنوي ا- ألا يستحق به حمايته من خطر هذه النفايات؟”

ويضيف “مكب النفايات الإلكترونية يكلف حوالي 94 مليون دولار (يعني ضريبة شهرين على الأكثر) وإيراد ربما أقل ­من شهر واحد مما تحصل عليه شركات الإتصالات من تقديم الخدمة”. خاصة وان السودان لم يشهد عملية تدوير النفايات منذ العام 1965.