الجنوبيون العالقون في الشمال: لا عودة ولا استقرار
26 يونيو 2013
ترك السلطان (دوت) ممتلكاته وأراضيه في ولاية واراب جنوب السودان العام 1984 هرباً من الغارات الجوية وعمليات القتل الجماعي التي أتهم الجيش السوداني بارتكابها بعد تجدد الحرب الأهلية. لكنه لم يكن ليعلم بينما ينزح شمالاً أنه سيعلق هناك في تلك الحالة التي لا يستطيع فيها العودة إلى مسقط رأسه بعد توقف الحرب، فقد جرت العادة أنه كلما تقدمت المزيد من كتائب الدفاع الشعبي باتجاه جبهة القتال في الجنوب تقاطع معها تدفق النازحين بالاتجاه المعاكس. مئات الآلاف من الشباب الذين التحقوا بتلك القوات لم يعودوا. دون أن يلحقوا الهزيمة بالمتمردين أو حتى الحفاظ على وحدة البلاد. التي انفصلت ثمناً لتحقيق سلام يصبح بعيد المنال يوماً بعد يوم، والأسوأ أن الكثير من أولئك النازحين الذين اختاروا الجانب الآمن من بلادهم للإقامة لم تعدبلادهم بعد الآن وباتوا يواجهون مصيراً غامضاً.
لم يكتف السلطان دوت باللجوء إلى حيث ينطلق الجنود نحو وطنه. لكنه استفاد من حالة السلام النسبي في العاصمة الخرطوم والتحق بجهاز الشرطة، وأنجب من زوجتيه ثمانية أطفال ظل يعيلهم إلى أن تغير كل شيء. السلطان دوت الذي يبلغ من العمر الآن 45 عاماً واحد ضمن 50 ألف مواطن جنوبي يقطنون الساحات المفتوحة في الخرطوم بانتظار العودة إلى موطنهم الأصلي منذ عامين هي عمر استقلال جنوب السودان، ورغم توقف الحرب في الجنوب وخلع مقاتلي الحركة الشعبية لتحرير السودان بدلهم العسكرية ليديروا دولتهم الجديدة. إلا أن حرباً أخرى نشبت بين الحكومة نفسها ومقاتلي الحركة الشعبية – قطاع الشمال في ولاية جنوب كردفان المتاخمة للحدود الدولية، والتي لم ينتهوا من رسمها بشكل نهائي. أثرت هذه الحرب بشكل حساس على عودة الكثير من الجنوبيين العالقين في الشمال إلى وطنهم. كثير منهم لا يملك ثمن تذكرة الطائرة، أما السفر براً فهو مخاطرة تشابه الظروف التي جاءوا إلى الشمال هرباً منها.
يقول دوت في حديثه لـ (عاين) أنه بات عاطلاً عن العمل منذ عامين عقب تسريح كافة منسوبي الشرطة الجنوبيين بقرار رئاسي كرد فعل على استقلال الجنوب. مؤكداً أن الأموال الزهيدة التي نالها كمعاش أو مكأفاة لنهاية الخدمة قد ذهبت أدراج الرياح، ولا يعلم كيف يعود الآن لموطنه. حيث يعاني ما يقارب النصف مليون جنوبي كانوا يعيشون في شمال السودان من سوء المعاملة والتهديد بالطرد من قبل السلطات، لكنهم في الوقت نفسه يواجهون مشكلة مزدوجة، ففضلاً عن عجزهم الحصول على حق الإقامة في الشمال لا ترغب الحكومة السودانية في اعتبارهم نازحين أو لاجئين، ورغم تناقص أعدادهم بجهود مشتركة بين حكومتي جنوب السودان والسودان بالتعاون مع منظمة الهجرة الدولية ومفوضية الأمم المتحدة للاجئين. لا يزال الآلاف عالقين في الشمال.
تنتشر معسكرات العالقين الجنوبيين في عدة مناطق في ضواحي الخرطوم كالشجرة والحاج يوسف وجبل أولياء. إضافة لمناطق زقلونا وجبرونا العشوائية بأمدرمان، ويعاني الآلاف من نقص حاد في الإيواء وانعدام مياه الشرب النظيفة وفقدان الدخل وفرص التعليم والعلاج، وعدم توافر الكهرباء وخلافها من أساسيات الحياة. فضلاً عن ما نقله عدد من هؤلاء في حديثهم لـ ( عاين) من مضايقات الشرطة السودانية لهم ومنعهم من إقامة المناسبات الإجتماعية والدينية في كثير من الأحيان. خصوصاً للمسيحيين الذين يمثلون أغلبية اللاجئين.
منظمة الهجرة الدولية بدورها بذلت مجهوداً متواضعاً لمعونة 50 ألف لاجئ حالياً، وهي تناشد الدولتين بالعمل العاجل لتوفير الخدمات لهم إلى حين ترحيلهم، وفي تقرير لها أعربت المنظمة بشكل واضح تحفظها على ترحيل العائدين براً نظراً للمخاطر الأمنية الكبيرة التي ستواجههم خلال العودة البرية أو النهرية عن طريق ميناء كوستي. مشيرة إلى أنها استطاعت بالفعل ترحيل ما يقارب 3000 من النساء وكبار السن والمعاقين جواً إلى جنوب السودان.
من جانبها تحذر مفوضية الأمم المتحدة لشئون اللاجئين إلى مشكلة أخرى تهدد الجنوبيين بالشمال، وهي فقدانهم لجنسيتهم السودانية وعدم حصولهم على جنسية جنوب السودان في الوقت ذاته، وتؤكد المنظمة أن عشرات الآلاف من الجنوبيين في الشمال مهددين بأن يصبحوا من فئة البدون التي لا تمتلك جنسية على الإطلاق، حيث يستفحل الشعور بفقدان الهوية والانتماء مع مرور الزمن. وهو ما يعد خرقاً لواحد من أهم حقوق الإنسان على حد تعبير المفوضية.
ويضيف الدبلوماسي بسفارة جنوب السودان بالخرطوم ميانق لول كول، جوانب أخرى في المخاطر التي تهدد الوجود الجنوبي في السودان، وهو عدم تمكن السفارة من حصر أعداد الجنوبيين في ولايات السودان الأخرى غير الخرطوم، ويقول في لقاء مع (عاين) : “آلاف الجنوبيين موجودين في الولايات لكن لا نستطيع الوصول إليهم، والحكومة السودانية لا تساعدنا في ذلك“. كما حذر كول من المخاطر المتزايدة من نشوب عمليات انتقامية يمكن أن تطال الجنوبيين في السودان لا سيما عقب التدهور المستمر في العلاقات بين البلدين. كان أبرزها القرار الأخير للرئيس السوداني عمر البشير، بإغلاق الأنابيب الناقلة لنفط الجنوب.
يشكو السلطان دوت من كل ذلك بغضب واضح، فهو لا يزال يذكر ترحيله مع آلاف الجنوبيين مؤخراً من موقعهم في الجريف – شرق إلى معسكر الشجرة : “ لم يشاورونا، ونقلونا إلى هنا ولا توجد حتى مياه للشرب“ مضيفاً أن المحلية صادرت الرواكيب والخشب والسرائر وكل ما استطاعوا حمله، ويضيف بأسف : ” لم نشعر بطعم الاستقلال حتى الآن، فنحن نعيش في مهانة مستمرة وتتم معاملتنا كأجانب مرفوضين في السودان ورغم ذلك لا نستطيع العودة إلى الجنوب“.