الاسلاميون والعداء التاريخي للثقافة
– شبكة عاين – ٢٣ نوفمبر ٢٠١٥ –
ثمة عداء تاريخي قديم بين الإسلاميين السودانيين مع الثقافة، والتراث والحداثة، وكذلك الفن والجمال وكل أشكال الإبداع، ويصدرون فتاوى بان كل ذلك من المحرمات، وأجتهد علماءهم وفقاءهم في إصدار الفتاوى التي تحرم النحت وتصفه بأنه من الأصنام، وتحريم الغناء وتعتبره باللغو، ولم تمر تلك الفتاوي دون التطبيق الفعلي للمنع والقمع إلى حد التكفير وإراقة الدماء، وكان للاخوان المسلمون مقولة شهيرة في العداء للفن السينمائي بتسميته “السوء نما”.
البداية في منع رقصة العجكو في الستينيات
لا زال السودانيون يتذكرون هجمة الإسلاميين على إحتفالية كرنفالية لأبناء جبال النوبة في جامعة الخرطوم أثناء تقديم فقرة خاصة لرقصة خاصة بالمنطقة تعرف بـ”العجكو” التراثية عام 1968م، وقد تصدى الطلاب الإسلاميون بقيادة ابراهيم احمد عمر (رئيس البرلمان) الحالي، والطيب ابراهيم محمد خير “سيخة” الطالب وقتها في كلية الطب لمنع تلك الفقرة وإلغاء الكرنفال حيث قاموا باعمال عنف.
وامتد عداء الاسلاميون للابداع لتشمل تحطيم اعمال النحت والتماثيل، حيث شملت تماثيل الشيخ بابكر بدري في جامعة الأحفاد، والشهيد القرشي في جامعة الخرطوم، وقائد المهدية عثمان دقنة أمام بلدية بورتسودان، والنصب التذكارية لأمراء المهدية في ساحة جامع الخليفة بأمدرمان، ثم كانت أقوى وأعنف هجمة تلك التي نفذها وزير الثقافة الاسبق عبدالله محمد أحمد بنفسه ومجموعة من حراسه بتحطيم تماثيل كلية الفنون والتي تمثل مشاريع التخرج لطلاب قسم النحت والتصميم في العام 1988 .
تلك الذهنية التي تحرم كل عمل إبداعي لتقبيح وجه الفنون والثقافة والتراث وجدت المساندة والدعم من سلطة القمع والإرهاب، لا سيما بعد وصول الإسلاميين إلى السلطة في يونيو 1989م، حيث صار المجال الثقافي والإبداعي مواجه بفتوى تحريمية وقرارات أمنية، بإغلاق دور الإستنارة والوعي ومراكز الفنون والتراث وتجفيف المنابر وتجميد الحوار الثقافي وتكميم الأفواه وقمع حرية التعبير وتبادل الأفكار وتعطيل المسارح، ويخيم الصمت والسكون على ليالي الخرطوم التي كانت مليئة وحاشدة بشتى ضروب الإبداع من ليالي شعرية، غنائية، مسرحية ومهرجانات ثقافية، وقد إمتدت هجمة جهاز الأمن ورجال الدين بإغلاق المراكز الثقافية، ومنع معرض “مفروش” لبيع وتبادل الكتب المرتجعة، وهذه الهجمة لا زالت مستمرة، واصبح المبدعون في حيرة من أمرهم مع هذا القمع المتواصل بعد أن تفرقوا أيدي سبأ.
مصادرة كتب في معرض الخرطوم للكتاب
وفي لهجة لا تخلو من غضب، ويشوبها الحماس والحيوية، يُدين المخرج المسرحي ربيع يوسف الحسن في حديثه لـ “عاين” القرارات التي أصدرتها الحكومة وبموجبها تمَّ إغلاق العديد من المراكز الثقافية واتحاد الكتاب السودانيين، فضلا عن التضييق المتزايد على النشاط الثقافي والإبداعي خاصة ما يحدث مع جماعة عمل الثقافية ومفروش الكتاب المرتجع، ومصادرة بعض الروايات من معرض الخرطوم الدولي للكتاب مؤخراً، ويوضح ان التضييق طال كافة اوجه العمل الثقافي العام الذي هو بالضرورة مقروء في سياق الحرب الأهلية. وهو سياق – برأيه- يُشكِّل ملامح المستقبل ويحدد مآلات إنسانه بمن فيهم المثقفين والكُتاّب.
وقد اعرب التحالف العربي من أجل السودان والشبكة العربية لإعلام الأزمات في بيان صحفي عن بالغ أسفهما للإجراءات التعسفية التي قامت بها هيئة المصنفات الأدبية والفنية، بمصادرة عدد 6 مطبوعات، صادرة عن دار أوراق “المصرية ” للنشر والتوزيع في الحادي والعشرين من اكتوبر الماضي ومنعت تداولها في فعاليات معرض الخرطوم الدولي للكتاب، بينما أحالت أربعة أخريات للفحص والتدقيق لحين البت في جواز نشرها من عدمه. وصادرت هيئة المصنفات رواية “سيرة قذرة” لمحمد خير عبدالله، “ساعي الريال المقدود” للكاتب مبارك أردول، كتاب “هل أخطأ السلف” و”سوق الدعارة المصنعة” للكاتب د. محمد بدوي مصطفي، إضافة إلى روايتي “أسفل قاع المدينة” لإيهاب عدلان و”بستان الخوف” لأسماء عثمان الشيخ .
وشن المخرج المسرحي ربيع يوسف هجوماً على المثقفين، ويرى ان خياراتهم رومانسية وليس من بينها خيار المقاومة، ويقول ” خيارات الشجب والادانة والرومانسية لا تتناسب مع عنف الحكومة ” ويصف النظام الحاكم بالـــ” المتسلط”، ويقول ط هذه الحكومة تبتدع يومياً أشكالا من العنف “، ويرى أن القرارات الحكومية حول مصادرة الكتب في معرض الخرطوم تستوجب إبداع مقاومة مواكبة إن لم تكن إستباقية لتجرِّد الحكومة من موقع المبادرة الذي ظلت تحتله بينما يقبع المثقفون في مواقع ردة الفعل .
ربع قرن من الظلام والقادم اسوأ
على مدى ربع قرنٍ من الزمان تعرضت “الحركة الثقافية لهزات وحصار متواصل واحياناً إلى درجة كتم الأنفاس”، هكذا بدأ المصور والفنان التشكيلي عصام عبد الحفيظ حديثه لـ “عاين” بقوله: أن الثقافة كما النبات ينمو حيث تكون بيئته ملائمة “، ويشير الى ان الحوار الثقافي بأشكاله المختلفة قد تراجع الى أن عاد بالمثقفين الى سؤال الهويه، ويضيف “وهذا عين التقهقر والرجوع الى بدايات تشكل حوار الثقافة بعد السودنه”، ويرى ان التراجع الحقيقي بدأ بالمنابر الى درجة الزوال من اختفاء الحوار في المركز دعك عن الاطراف، ويعتقد ان الشباب اصبحوا يستدعون النوستالجيا من حيث المكان، حيث الذهاب الى (اتيني) الذي دشن فيه معرض مفروش للكتاب، ويقول: “ولكن مفروش تم لفه في لحاف السلطة بالمنع خوفاً من انفاس الشباب القادم من اقبية البيوت والحواري”
ويواصل عبد الخفيظ حسرته لما هو مآثل بقوله ان المراكز الثقافية والمنابر والاصدارات الثقافية قد إنحسرت، وان ذلك أثر سلبا على التواصل والتبادل الثقافي، ويقول ” لقد علا في جلد التنوع صوت القبيلة فكان لابد من مخرج للمقاومة او فعل ثقافي بشكل طبيعي والبحث عن بدائل أخرى “، ويرى ان الحراك الثقافي على الاسافير شكلت افاكر جديدة مبدعة واحياناً مبدعة في استخدام الصورة والتصميم والنص المكتوب، ويشير الى تشكل مبادرات مجتمعية في محاولة للاصلاح وفتح طآقات للوعي الايجابي بعد انسحاب الدولة من مسؤولياتها في الصحة، التعليم والثقافة من باب اولى .
مشهد ثقافي من العسف والنسف والمصادرة
فيما يقول الشاعر عثمان بشرى لـ “عاين” أن المشهد الثقافي وعلى مدى ربع قرن لم يسلم المسرح وخشباته المتهالكة ولا الفنان او الشاعر من مصادرة منابره ومنتدياته على تواضعها وقلتها، بل قل ندرتها لم يسلموا من العسف والنسف والمصادرة وأحيانا (القتل والإقصاء المعنوى)، و يرى أن دولة لا تحترم انبياءها من المبدعين والفنانين غير جديرة بالاحترام وليست لديها اى مصداقية فى اي برنامج انتخابى تعلن عنه، ويتساءل : “هل سيكون الحال فى خمس سنوات ظلامية أخرى أفضل مما كان عليه على مدى ربع قرن من الجوع على كل المستويات؟ ” ويردف تساؤله بإجابة شعرية فلسفية: ” أشك فى أىِّ شيء ” .
ولا يبتعد الكاتب والمخرج المسرحي يحى فضل الله عن السياق كثيراً إذ يرى أن الموضوع أكبر بكثير من مجرد إفادة حوله، ويقول فضل الله لـ”عاين” أن الضغوط علي المشهد الثقافي متزايدة بطرق وأساليب مختلفة، ويشير الى أن الخراب الثقافي هو نتيجة حتمية للركاكة السياسية التي دمرت البلاد، ويتوقع أن تستمر مساهمات الكُتَّاب والفنانين للقتال ضد الخراب، ويتابع ” كل ظلام العالم عاجز عن اطفاء شمعة “.
وضع ضبابي غامض
من وجهة نظرها تقول الشاعرة والناشطة الثقافية نهلة محكر لـ”عاين” أن المشهد الثقافي ﻻ ينفصل عن الواقع، إن لم يكن هو المرآة التي تعكس هذا الواقع الذي يكتنفه التردي في كل مجاﻻته في ظل الكبت وتكميم اﻷفواه ومصادرة الحريات، ذات الرأي هو ما ذهب إليه الشاعر عثمان بشرى بأنّ العملية متلازمة حياتية متكاملة مترابطة ومتشابكة بشكل دقيق لا فصام فيه، ويقول ان الأثر السلبى يقع على اكثر الفئات ضعفا فى المستوى المعيشى والحيازى والتملكى وكذا سلطات، ولما كان الفنان او الكاتب او الشاعر ـ كما يشير بشرى ـ فى بلدان ظلامية قاتلة مثلما السودان سيصبح الجرم أكبر والغبن وحالات التململ والتزمر والرفض أوسع، من جهة أن الفنان او الشاعر بالذات فى خطابه المنحاز والمنجز بالموضوع لا الذاتى نحو قضايا الحب والحرية والديمقراطية فى خطابها الانسانوى بامتياز من خلال المساواة والوحدة والسلام وقضايا المرأة والطفل والدين .
بينما تقول الشاعرة نهلة محكّر أن المنابر تشكل مصدر خطر على النظام الذي سيستمر في الضغط على كل منبر ثقافي حر ينشد التغيير وينادي بحرية التعبير حتى يطيل بقاءه في سدة الحكم، وتضيف ” لكن الرائي لما نعيشه اﻵن من واقع يقول بأن الوضع يزداد ضبابية وغموض .. وأتمنى أن يكون ظني في غير مكانه ويكون الإنفراج قريباً “، وترى ان اغلاق المنابر الثقافية التؤ كانت مصدراً للتنوير والمعرفة ونشر الوعي هو نوع من القهر، لا سيما ان النظام الحاكم هو ضد الوعي ويكره الاستنارة .
وتوقعت ان يستمر النظام في الضغط على كل منبر حر ينشد التغيير وينادي بحرية التعبير حتى يطيل بقاءه في سدة الحكم، وترى ان زوال النظام مرهون بتكاثف الجهود وتوحيدها في كل اﻹتجاهات، ولكنها لا تبدو متفائلة وتقول” لكن الرائي لما نعيشه اﻵن من واقع يقول بأن الوضع يزداد ضبابية وغموض وأتمنى أن يكون ظني في غير مكانه ويكون الإنفراج قريبا”.
التغيير يمكن ان يتم عبر المشتغلين بالثقافة
وتعول الشاعرة محكّر على المشتغلين بأمر الثقافة في عملية التغيير، وتقول أن العبء الأكبر يقع على عاتقهم خاصة أن الثقافة هي محرك الشعوب إذا تم إستخدام أدواتها بالطرق الصحيحة وفي الوقت المناسب لتحريك الناس وحثهم على فعل التغيير، وتقول ان الفنون، الكتابة،الشعر، الموسيقى، الغناء والرقص كلها آليات تستخدم في هذا الشأن وهي قادرة على إحداث التغيير المرجو لسهولة وصولها وتداولها بين العامة، غير ان المخرج ربيع يوسف يقول أن التضييق سيزاداد ضرواة على النشاط الثقافي العام وذلك بسبب أن النظام فقد البوصلة، وإنعدمت فرص إستدراكه ثقة الجماهير والمثقفين لذلك ستكثر أخطائه وسيمارس أبشع أشكال العنف مما سيزيد من حالات الإحباط وسط الجماهير، لكنه يرى ان المثقفين يلجأون الى الحلول الفردية التي تتمثل في الهجرة الى بلدان مختلفة من العالم .
ويختلف الفنان والموسيقي هشام كمال عن نظرة سلفه، ويقول أن الفنانين والمثقفين الذين هاجروا اعدادهم قليلة، ويشير في حديثه لـ “عاين” إلى أن المبدعين تعرضوا لضغوط ومحاولات إبتزاز كانت كافية لأجبارهم على الهجرة، ومن رفضوا الهجرة كان أمامهم أن يسلكوا أحد الطريقين لممارسة الفنون، أحدهما ساهل بتقديم تنازلات وتنفيذ ما يطلب منك مقابل تحسين أوضاعهم المعيشية، أو أن ترفض سيتم فرض حصار إعلامي وممارسة قمع ومصادرة، ويقول بمزيد من الفخر ” إلا أن الكثيرين رفضوا كل الإغراءات فكانت هنالك بعض الإشراقات لعدد من الفنانين والمثقفين الذين إستطاعوا أن يصمدوا أمام هذه الهجمة، لكنهم حتى الآن لم يستطيعوا أن يبقوا ترياقاً لهذا الإنحطاط المنظم الماثل أمامنا ” .
مستقبل الفن والثقافة في ظل الاوضاع الراهنة
ويعيد هشام كمال إلى الأذهان تجربة فرقة ساورا الغنائة والموسيقية ـ والتي كان هو أحد أفرادها البارزين ـ التي يعدها بانها تمثل أفضل نموذج يوضح الضغط الذي تعرض له الفنانون، من حصار بمختلف الطرق فكانوا يواجهون صعوبة في تمكينهم من إيصال أفكارهم بإلغاء حفلاتهم، بقوة السلطة وهذه مسألة قاصمة للظهر، وهذه الأساليب وغيرها أدت لإضعاف دور الفن والثقافة في المجتمع، ومع ذلك كان اقل تفاؤلاً بمستقبل الفنون والثقافة في ظل الاوضاع الحالية، ويقول ان مستقبل الفن والثقافة مرتبط بمستقبل البلاد كلها .
أما عند المحاوله لإستقراء المستقبل من وجهة نظر الفنان التشكيلي عصام عبدالحفيظ فأنه يبدو مظلما تماما وليس ضبابيا كما كان، ويقول ان الوضع لن يتم اصلاحه إلا إذا عادت السيرة الأولى بعودة مراكز ثقافية تعمل ندوات ومعارض بلا تصديقات ومراقبة لصيقة لدرجه يضيع فيها المعنى من كلمة ثقافة ويرى ان المبدعين الذين هاجروا استطاعوا نشر ابداعهم واصبحوا مميزين، وان الفن التشكيلي كان الابرز عبر التشكيلين الذين قدموا تجارب باهرة، ويضرب امثلة بالفنانين التشكيلين الذين اقاموا في معارض كبيرة في لندن امثال ابراهيم الصلحي الذي زار مليون شخص في معرضه الذي استمر لشهرين في 2013، الى جانب تجارب آخرين منهم حسن موسى، ابارو، عثمان وقيع الله، محمود جاه الله، صلاح ابراهيم، سيف اللعوتة، احمد عامر، ويقول إن التشكيل السوداني خرج للعالم بعد ان تعرض لحصار في بلده ليقدم السودان الى العالم في شكل مميز وحقيقي رغما عن صوت الرصاص واللا سلام.