الإسلاميون السودانيون وسقوط الايدلوجيا

الإسلاميون السودانيون وسقوط الايدلوجيا

مراجعات:  مع د. خالد التيجاني النور في تقييم تجربة الحركة الإسلامية

المنعرجات الكثيرة والتحولات التي مرت بها الحركة الاسلامية منذ أربعينيات القرن الماضي قادتها عبر طريق شائك منذ التأسيس وانعكست على تحولاتها الفكرية والعملية والبراغماتية. وقادت تلك التحولات في نهايتها لما يمكن تسميته ب “سقوط الايدلوجيا” وتحلل التنظيم وغياب الفكر العقائدي تدريجيا لتحل محله صراعات السلطة والمصالح، وتحول التنظيم إلى مجموعات متصارعة حول السلطة وأخيرا حلقات صغيرة لمجموعة تتحلق حول شخص رئيس الجمهورية عقب هزيمته لكل الخصوم الداخليين.

وفي هذه المراجعات والتقييم لتجربة الإسلاميين بشكل عام وعقب وصولهم إلى السلطة في 1989 على وجه الخصوص، يرى الدكتور خالد التجاني النور، أن تجربة الوصول الى السلطة كانت دون وجود برنامج فكري متكامل وواضح لإدارة الدولة على مستوى الاقتصاد والسياسة، الأمر الذي حول فكرة المشروع الحضاري لمجرد شعارات ذابت مع صراعات المصالح واغراءات السلطة  حتى تحول النظام إلى مجموعة صغيرة حول الرئيس الذي مهد الطريق لنفسه عقب صراعات طويلة للاستمرار في السلطة.

ويري الإسلامي المعروف ورئيس تحرير صحيفة “إيلاف” الاقتصادية إن الحركة الاسلامية لم يكن لها برنامج اقتصادي بديل لإدارة الاقتصاد السوداني، لذلك اتبعت طريق التبعية للاقتصاد الرأسمالي القائم على “النيوليبرالية” وفرض نظام رأسمالي متوحش بعيد عن إقامة نظام العدالة الاجتماعية، حتى انتهت إلى تبديد أموال النفط وانهيار اقتصاد البلاد، الذي يخلص د. خالد التجاني النور إلى أنه تعبير عن الازمة السياسية في البلاد، مضيفا ان تجربة انفصال جنوب السودان وذهاب عائدات النفط جنوبا، أثبتت أن السودان الشمالي هو الذي كان عالة علي الجنوب اقتصاديا وليس العكس كما يروج الخطاب الرسمي للخرطوم.  

ويرى النور ان الحركة الاسلامية فشلت ايضا في اقامة نظام ديمقراطي في البلاد اسوة بغيرها من التجارب الاسلامية في العالم مثل تركيا وتونس في ظل عدم وجود تصور أو مشروع واضح لديها عن كيفية إدارة البلاد  عقب الانقلاب المدني الذي جاء بغطاء عسكري في 1989.

الإسلاميون السودانيون وسقوط الايدلوجيا

نشأة تربوية أم سياسية

مرت الحركة الاسلامية – حسب النور- منذ نشأتها في اربعينات القرن الماضي فيما عرف بـ “جبهة الميثاق الإسلامي” بمراحل مختلفة ، فيما بدأ تشكل الوعي الايدلوجي للمجموعات المؤسسة من رافدين أساسيين بعضها جاء من تنظيم الاخوان المسلمون في مصر، واخرى نشأت بجامعة الخرطوم.و كل تيار له أهداف ووسائل مختلفة.

وفي حديثه حول جذور الخلافات داخل  الحركة الإسلامية. يرى النور، إن أول الخلافات بدأت بين مدرستي التربية والسياسة  في نهاية الستينات. “أول خلاف كان في نهاية الستينات وهو الخلاف بين  مدرسة السياسة ومدرسة التربية! مدرسة التربية كان على رأسها محمد صالح عمر. وهي التي كانت ترى أن الانخراط في السياسة  يجب ان يكون محدود، بينما مدرسة السياسة برئاسة الترابي كانت  ترى أن المشاركة في العملية السياسية ضرورة”.

هذا كان اول الخلافات، لكن خفت حدة الخلافات بعد أن اُخذ جميعهم الى السجون  في انقلاب 1969 .  ويمضى موضحاً  “طابع الخلاف كان حول السياسة أولى  أم تربية الأفراد داخل التنظيم هي الاولي”. 

الإسلاميون السودانيون وسقوط الايدلوجيا

 المصالحة الوطنية وسياسة التمكين

يرى النور في حديثه أن الحركة الإسلامية منذ نشأتها لم تعرف  الاهتمام بالجوانب الاقتصادية ، فلم يكن لديها برنامج اقتصادي الى  ان اتى د. حسن الترابي باستراتيجية التمكين، وهي متعلقة بالاقتصاد أيام المصالحة الوطنية مع نظام الرئيس الأسبق جعفر نميري في العام 1977.

ويقول النور أن المصالحة الوطنية نفسها كانت محل خلاف بين الإسلاميين إذ أدت لانقسام الحركة الإسلامية الى مجموعتين واحدة رفضت المصالحة بقيادة الصادق عبدالله عبدالماجد والأخري بقيادة حسن الترابي تبنت المصلحة مع نميري. حدثت خلافات بسبب المصالحة  نفسها، الترابي كان أول من صالح النميري. ويضيف النور وهنا “كان الخلاف  حول طبيعة الحركة ودورها، فالتُرابي كان الأكثر حضوراً مع التطورات السياسية بتالي كان هو الأوسع انتشاراً، ولكن رغم هذه الخلافات الحركة كانت موحدة بصورة كبيرة”.

وعملت الحركة الاسلامية على مضاعفة مصادر تمويلها خلال الفترة التي تلت المصالحة الوطنية عن طريق تحالفها مع نظام نميري الذي فتح لها بقيادة الترابي فرصة الاستفادة من البنوك الاسلامية مثل بنك فيصل الإسلامي وغيرها.

ويمضي في الحديث  لـ(عاين) حول اقتصاد الحركة الاسلامية بالقول: بعد المصالحة  نشا بنك فيصل الإسلامي، ولم تكن للحركة علاقة به بقدر ما أنه ذو صلة  بأحد أفراد الحركة – وهو علي عبد الله يعقوب.  الذي كان يُشغل منصب مدير مكتب الأمير محمد الفيصل في السعودية . ويستطرد : قام  النميري بالتصديق للبنك في العام 1976.

“ويُعتبر بنك فيصل الإسلامي  من أول اهتمامات الحركة الاسلامية بالاقتصاد.  ” لكن  لم يكن هناك تنظير عن الاقتصاد كموضوع منفصل بذاته، فقط عموميات عن اقتصاد إسلامي في مواجهة نظام اشتراكي؛  ونظام المصارف كان عبارة عن مصارف لا ربوية، أكثر من طرح نظام اقتصادي بديل واضح المعالم“.  

وعن مصادر دعم الحركة الاسلامية، يقول خالد التيجاني:  “لم يكن هناك عمل كبير يتطلب مصادر أخرى؛ فبَنك فيصل الإسلامي  وبنك التنمية، وبعض رجال الأعمال الجدد ساعدو كثيراً. وفي ذات الوقت كانت هنالك بعض التبرعات والبعثات  كالدعوة الإسلامية و الاسلامية للاغاثة، هكذا كانت تستقطب أموال كبيرة جدا من محسنين في دول الخليج، لتمويل أنشطة في جنوب السودان  ومناطق أخرى”.

ودخلت الحركة الإسلامية انتخابات 1986 بقدرات مالية وحركية أفضل من غيرها من القوى السياسية التي كانت تعاني من المنع والقهر ايام نميري الامر الذي وضعها في الترتيب الثالث في نتائج انتخابات الجمعية التأسيسية في انتخابات 1986 تحت مسماها الجديد “الجبهة الاسلامية القومية”.

الإسلاميون السودانيون وسقوط الايدلوجيا

محك السلطة وسيناريو السقوط

وسرعان ما استطاعت الحركة الإسلامية الوصول الى السلطة عبر انقلاب يونيو 1989 الأمر الذي شكل عاملا أساسيا في تغيير موازين القوى في الصراع السياسي في البلاد لصالح الأخوان المسلمين، كما انعكس علي البناء الداخلي للتنظيم والصياغة التربوية للأفراد  مع بدايات السيطرة على السلطة ومصادر الثروة في البلاد.

الصراع الداخلي بين تياري التربية والسياسية الذي قاده الترابي ازداد عمقاً بعد المصالحة الوطنية ووصل قمته بنمو صراع المصالح عقب الوصول إلى السلطة.   

ويرى النور أن قواعد اللعبة السياسية داخل وخارج التنظيم تغيرت تماما بوصول الاسلاميين الى السلطة، وبدأ الخلافات تتعمق من خلال محك السلطة وإدارة الدولة ومصالح ومطامح الأفراد أو القيادات.

مبينا ان مراحل الخلافات مرت بحل الحركة الاسلامية واندماج الجميع في ظل سلطة شمولية وإبعاد العديد من قيادات الإسلاميين وتقريب العديد من رموز المايويين.

“أول خلاف حصل بعد ان تم ما يعرف في أدبيات الإسلاميين بحل التنظيم في بداية الانقاذ، وباسم هذا الحل للتنظيم تم خروج أو إبعاد الكثير من الفاعلين في الحركة الاسلامية، وتم دخول عناصر أخري أغلبها له ارتباط سياسي  بنظام مايو أو غيره، فبالتالي أصبح هناك خيارين أما أن تنخرط في النظام وتكون جزء من السلطة بكل قواعد اللعبة بتاعت ادارة أي سلطة شمولية وبين انك تكون عندك تمسك بالأفكار الأنت من أجلها انضميت للحركة”.

واستدرك:  هذه الطبيعة الجديدة  أدت إلى انصراف عدد كبير من الكوادر فأصبح هنالك خيارين. ” اتباع السلطة،  أو خيار التمسك بالأفكار”. ومن هنا بدا الشعور بأن مجموعة على عثمان اختطفت الانقلاب وأدارته  لصالح خيار بعيد عن الحركة، فحصل خلاف، بين الترابي وعلى عثمان لكنه لم يكن معلن. فثالثة الأثافي كانت في سجن الترابي  وابتعاده عن مفاصل الأمور؛ مما ادى الى تشكيل الانقاذ بمعزل عنه.”

ولخص التيجاني تنامي الخلافات بالقول “السلطة نفسها أدت الى خلافات حول المصالح والمطامح ، فكل مرة تتغيير طبيعة الصراع الداخلي. واغراءات السلطة جعلت الخلافات حول السلطة والثروة وليس الأفكار“، مستطردا “في الاخر انت كشفت أن هذا المشروع مشروع هش ، وانت عشان تعرف الفرق الان هم مبسوطين جدا من أردوغان والغنوشي وانهم يفوزوا في الانتخابات لكن الناس ديل في النهاية إختطوا طريق مختلف تماما عنك، ناس لجأوا إلى مشروع ديمقراطي  لذلك مشكلة المشروع الإسلامي في السودان أنه ليس الفشل مرتبط بادارة السلطة مثلا، لكن هو السقوط الأخلاقي والعجز عن تقديم نموذج أخلاقي على مستوى المشروع الذي تدعوا له، إذن السقوط ليس مادي بل هو سقوط أخلاقي”.

الإسلاميون السودانيون وسقوط الايدلوجيا

ضياع المشروع

ويستمر د خالد التيجاني في الحديث حول  انقلاب 1989 مشبهه بإنتحار الحركة الإسلامية قائلاً : ” القفز الى السلطة عبر انقلاب غير طبيعة الحركة”  ويضيف كان على الحركة مخاطبة قضايا التغيير لأنها كانت مُمُسكة بزمام العمل السياسي. في مشروع قادها الى  ان تكون القوة السياسية الثالثة في السودان؛ وذات حضور في الشارع السوداني بعد انتفاضة 1985… وكانت لها فرصة التقدم في انتخابات قادمة أكثر فأكثر.ولكن ثمة نوع من الاستعجال الى السلطة عبر انقلاب عسكري  بالبندقية غير من  طبيعة الحركة، فمن مشروع  أفكار ورؤى ، وإصلاح تغيير إلى سلطة   سياسية. فتحولت السلطة من هدف تحقيق مشروع؛ إلى أنها الهدف المرتجى. فاختيار الانقلاب العسكري قضى على المشروع  تماماً، ولكن معروف إذا وصلت إلى السلطة بالبندقية فإنك ستحافظ عليها بالبندقية. فالافضل للحركة كان استخدام السلطة العسكرية للحفاظ على الديمقراطية وليس الانقضاض عليها.

وفي حديثه حول الاسلام والحركة  يعلق خالد التيجاني على ذلك بحسم قائلاً  “الحركة الإسلامية ليست هي الإسلام “. فقط هي تصور أو اجتهاد مجموعة من الناس وفهمهم للإسلام.  لكنهم صوروا أنفسهم كجسد محتكر للدين و لفهم الدين؛ فالإسلام لا يمكن أن تحتكره مجموعة.  ويضيف الحركة كانت تقدم نفسها باعتبارها رائد مشروع اسلامي رسالي قائم على التضحية؛ لكن الرسالي يجب أن يكون له الاستعداد لتقديم التضحية لأجل المشروع!  لا أن يحول المشروع لتحقيق مكاسب ذاتية باسم الدين. واحتكارها خصما على المشروع نفسه. باللجوء للقوة  لفرض المشروع قضى على المشروع. وعقلية الاحتكار فرضت نفسها، ففشلت حتى في تنفيذ المشروع الذي فرضت نفسه لأجله!  وذلك لأن الإسلام منظومة قائمة على القيم عندما تسقط القيم فليس هناك إسلام. “مشكلة المشروع الإسلامي السوداني هو أن  فشله ليس متعلق بادارة السلطة وتطبيق المشروع  فحسب؛ بقدر ما أنه يمثل سقوط اخلاقي“. فالإسلام هو بناء  قيم وليس بنا كباري وسدود  واستخراج نفط . ويستشهد بالقول” ” ذاكرة الاسلام ظلت تستدعى عمر بن الخطاب.  ليس لأنه بنى كباري وإنما المنظومة العدلية، الأخلاقية التي اتبعها؛ هي التي جعلت ذكراه قائمة إلى الآن “.

الإسلاميون السودانيون وسقوط الايدلوجيا

اقتصاد نيوليبرالي بغطاء إسلامي

ويمضي للحديث حول إدارة النظام الإسلامي للاقتصاد السوداني  مشيرا الى فشل الانقاذ في تطبيق مشروع اقتصادي بديل نسبة لعدم قدرة الحركة الاسلامية على إنتاج استراتيجيات بديلة لإدارة البلاد. مشيرا الى تبني الحركة الاسلامية للمشروع النيوليبرالي الذي بدأ بمؤتمر واشنطن في العام 1990 وكرس للسياسات النيوليبرالية وتطبيق سياسات البنك الدولي وصندوق النقد القائمة على الخصخصة وسياسات التحرير الاقتصادي، ومعادية لمبادئ العدالة الاجتماعية، الأمر الذي دفع الانقاذ لتبني الرأسمالية في صورتها المتوحشة.

“الحركة الاسلامية ما عندها استراتيجية اقتصادية ودي مشكلتها عشان كدا لما بقي عندها دولة فشلت تدير الاقتصاد، ودي حاجة مهمة لانو الحركة الاسلامية قالت عندها مشروع حضاري يعني مشروع بديل في الاقتصاد في السياسة في المجتمع في الثقافة في الفن في أي شئ، لانو انت لم تطرح نفسك ما زول عايز تحكم بس ، انت قلت انا جاي بديل للمشاريع الحضارية الغربية أو المشروع الاشتراكي الشيوعي، انت طارح نفسك عندك رؤية جديدة عايز تقدم مشروع كامل يمثل الإسلام، لكن هذا المشروع كان مجرد شعارات عمليا في الواقع ما كان عندو نظريات تبين عليها هذا، وهذا كان أوضح ما يكون علي مستوي الاقتصاد”.

ويضيف النور ” التحقت الانقاذ من البداية بسياسة التحرير الاقتصادي ، وحقيقة سياسة التحرير الاقتصادي هي ليست سوى اتباع لوصفات صندوق النقد الدولي ، معروف انه في سنة 1990 صندوق النقد الدولي تبني ما يعرف باتفاق واشنطون، وهذا الاتفاق هو تعبير عن النيوليبرالية أو الرأسمالية في نسخة النيوليبرالية التي دعت إلى الخصخصة والتخلي عن القطاع العام، يعني في النهاية أقرب إلى رأسمالية متوحشة”. “أنت في النهاية باسم التمكين تحدثت عن التحرير الاقتصادي ووصلت إلى تمكين فئات معينة وطبقت نظام غربي رأسمالي متوحش.