إعلان إفلاس الدولة من داخل البرلمان السوداني

إعلان إفلاس الدولة من داخل البرلمان السوداني

برز اتجاه غير مسبوق لدى عدد من قادة الحكومة باعلان افلاس الدولة. الاعلان نفسه فيه جانب كبير من الحقيقة تحت وطأة الأزمة الاقتصادية الحادة حاليا، اضافة الى كونه تعبير عن الصراعات الداخلية بين مراكز القوى داخل النظام في ذات الوقت.

وسط احتدام غير مسبوق للازمة الاقتصادية التي تجتاح السودان حاليا وبروز إشارات ودلائل عديدة لتفاقم الصراع الداخلي بين مراكز القوى في الحكومة والحزب الحاكم، تكرر تعمد كبار المسئولين الحكوميين اعلان جوانب من افلاس الدولة وعجزها عن الايفاء بأقل التزاماتها ليس فقط تجاه المواطنين بل تجاه موظفي جهاز الدولة نفسه. وقبل أن تغب عن الأذهان حادثة إعلان وزير الخارجية، ابراهيم غندور، عجز الحكومة عن دفع رواتب الدبلوماسيين وايجار السفارات في الخارج والتي أدت للاطاحة بغندور من منصبه. بادر وزير الدولة بوزارة النفط سعد البشري للقول أمام البرلمان بأن أزمة شح المحروقات لن تحل ما لم توفر الدولة التمويل اللازم. ولم يقف أمر التصريحات التي اتسمت بالطابع الفضائحي عند الوزراء بل ان رئيس الوزراء والنائب الاول لرئيس الجمهورية أكد أمام ذات البرلمان ان الحكومة لم تستطع توفر مبلغ 100 مليون دولار مع تزايد التضخم الذي بلغ 56%.

بداية الأزمة

استقبل السودانيين العام 2018 بمعالجة اقتصادية مؤلمة، وتمسكت الحكومة برفع سعر الدولار الجمركي من من 8 الى 16 ثم الى 30، وشهدت السلع الاستهلاكية تزايد مضطرد في الاسعار حتى طال الأمر مؤسسات الدولة، حيث شهدت وزارة الخارجية، التي تعتبر الأكثر صرفا مقارنة بمثيلاتها من الوزارات الاخرى، تقليص في بعثاتها الدبلوماسية بإغلاق 13 بعثة دبلوماسية وتقليص سبع اخر، وأغلقت بعض السفارات أبوابها تماماً بسبب عدم قدرة الدولة على تسيير العمل فيها. وكان وزير الخارجية الاسبق ابراهيم غندور قد استبق ذلك بشكاية للبرلمان السوداني اوضح من خلالها عدم قدرة الوزارة على دفع رواتب الموظفين منذ العام 2017 موضحاً أن بنك السودان المركزي لم يفي وزارة الخارجية بكافة مستحقاته. وكان البنك المركزي قد نفي ذلك موضحاً انه سدد التزاماته بنسبة 92% وجاءت تصريحات غندور قاصمة الظهر حيث أصدرت رئاسة الجمهورية قرار باعفائه من منصبه كوزير للخارجية، الأمر الذي شكل موجة تعاطف كبيرة مع غندور على وسائط التواصل الاجتماعي والصحف بكافة أشكالها ورقية والكترونية. ووصل الأمر الى مقترح ترشيح غندور لرئاسة الجمهورية من قبل المتعاطفين. ولكن القانوني المدافع عن حقوق الانسان محمد بدوي حلل ما جرى لغندور قائلاً “دون محاكمة النوايا، فإن تصريح غندور في تقديري تم الإعداد له ليتم علي منهج إتباع أقصر الطرق“. وأضاف بدوي ان الحصافة في الخطاب تقتضي البدء باستعراض مساهمة وزارة الخارجية المفروضة عليها بحكم تفويضها في الموازنة العامة، فإن لم تكن جميع السفارات فإن أغلبها بها أقسام إقتصادية ونوافذ إستثمارية تفترض عليها القيام بعمل جدي وفقاً تفويضها مقابل ما تناله من أجر “مرتبات”. ويتابع بدوي “بل دعك من ذلك فأبسط مثال تُمثل الأقسام الثقافية بالسفارات وسائط للترويج للسياحة و توفير فرص ومنح تعليمية والتي تُشكل إضافة مادية و تأهيل بشري تصنف تحت البند الإيجابي في مساهمتها التأهيلية للكادر البشري الذي يُشكل جزء من بنود الموازنة العامة للدولة وإن لم تتم صياغة هذه المساهمة في صورة أرقام حسابية“.

فشل

ولكن التصريحات الرسمية بعجز الدولة عن تسيير عملها لم تقتصر على غندور وحده. فقد أقر النائب الاول لرئيس الجمهورية أن رئيس مجلس الوزراء القومي بكري حسن صالح، بعدم قدرة الحكومة على توفير متطلبات وزارة النفط البالغة 102 مليون جنيه (5 ملايين دولار أميركي) لصيانة مصفاة الخرطوم، الأمر الذي خلق أزمة في الوقود واصطفافاً في محطات التزود بالمحروقات. وأقر صالح بصعوبة الأوضاع المعيشية للمواطنين، وأكد أن سياسة التحرير الاقتصادي جرعة مرة كان لا بد منها. وقال: “عارفينها صعبة وحاسين بالشارع“.

ويرى كثيرون أن تصريحات النائب الاول لرئيس الجمهورية تعد قمة التعبير عن الصراعات الداخلية في النظام، إذ وصلت لدرجة اقرار الرجل الثاني في الدولة بفشل وعجز الدولة عن توفير التزاماتها. ويشيرون الى ان اصرار رئيس الوزراء على ذلك الحديث، رغم عزل وزير الخارجية غندور لذات السبب، يعد تأكيدا على وصول الصراعات الداخلية لأمر غير مسبوق. أما وزير الدولة بوزارة النفط سعد البشري فقد أصدر تصريح يعبر عن إفلاس الدولة وعزل ندور بشكل ساخر، حين رد على اسئلة الصحفيين له بشأن عجز الدولة عن توفير التمويل اللازم “عايزنى اتكلم عشان يشيلوني زي غندور“.

سوء إدارة و تخبط

ويرى المحلل السياسي، الطيب زين العابدين أن موقف الحكومة ممثلة في رئاسة الدولة من وزير الخارجية الذي تحدث بشفافية عن المتاعب الاقتصادية التي واجهتها وزارته خلال الفترة الماضية كان هو اقصائه من موقعه في تعبير عن رغبة الحكومة فيما اسماه برغبتها في السترة على حالها الاقتصادي المائل. وقال “بدلا من معالجة الازمة التي لم تعبر عنها وزارة الخارجية فقط وغيرها الكثير في الوزارات ودواوين الحكومة تعاني ذات الامر“. ولكن الحكومة لجأت إلى أسلوب تخويف الوزراء وجعلهم يصمتون على إخفاقاتها الاقتصادية المتفاقمة – بحسب زين العابدين الذي يشير الى حالة سوء ادارة وتخبط كبير في ادارة البلاد التي يقول “مواردها منهوبة تماما بواسطة نافذين يهربون الذهب المنتج في البلاد بنسبة 90% الى دولة الامارات تحديدا“، بجانب موارد أخرى عديدة تنتج محليا ولا عائد منها بسبب الفساد هذا إلى جانب الترهل الكبير في الحكومة والوزارات بنحو 40 وزير خلاف الدستوريين في الولايات.

ويخلص زين العابدين في حديثة لـ(عاين) الى ان سوء الادارة وعدم الشفافية وضع البلاد في هذا المأزق الذي تقر به الحكومة فقط لكنها لا تخطط ولا تعرف كيفية الخروج من هذا النفق ودوننا الفساد واضح وضوح الشمس، فما لم يتم محاربته واعادة الاموال المنهوبة والعمل على معالجة سوء الادارة في دواليب الحكومة ستظل الاوضاع تتدهور في انتظار نتائج كارثية.

تدمير الإنتاج

من جهته قال نائب رئيس حزب المؤتمر السوداني المعارض خالد سلك “اعتقد أن إفلاس النظام لم يعد سراً بنتظر إفشاءه بواسطة بكري حسن صالح أو غندور، فالنظام الذي دمر القاعدة الإنتاجية في البلاد واعتمد سنيناً على عائدات النفط وفقدها بتقسيم البلاد لا يجب أن يفاجأ بأن خزينته خاوية على عروشها“. و زاد سلك في القول ان الشعب الذي استنزفت جيوبهم بالجبايات لن يتحمل مسؤولية فشلهم لوقت طويل. معتبراً في حديث لـ(عاين) ان التصريحات الأخيرة هي إعلان عجز عن مواجهة حقيقة الإفلاس، وعن خواء أذهان من يحكموننا من أي حيل أخرى يظهرون بها سوءات فشل سياساتهم ومحاولة بعضهم أيضاً التنصل من تحمل مسؤولية فشل ساهموا فيه سنوات عدة. ويمضي سلك للقول بأن إعلان النظام عجزه عن توفير دولارات لصيانة مصفاة هو إعلان عجز عن الحكم في الحقيقة واستقالة عن تحمل المسؤولية ويجدر بنا هنا أن ننهض لإستعادة السلطة السليبة إلى الناس الذين اغتصبت منهم وأساء الانقاذيون التصرف فيها لثلاثة عقود ليحولوا البلاد إلى حطام. واختتم سلك بالقول “الوضع جد خطير ولا يتحمل التراخي أو الإنصراف إلى صراعات صغار العقول والنفوس، الوقت الآن للتعامل بجد مع حاضر الوطن ومستقبله“.

إعلان إفلاس الدولة من داخل البرلمان السوداني

ظروف ضاغطة

ويري مراقبون عدة أن النظام يمر بأكثر الظروف الضاغطة التي شهدها طوال العقود الثلاثة التي حكم فيها البلاد، مشيرين الى أن سوء إدارة النظام لعلاقاته الخارجية مع دول الجوار ومحاولة التلاعب على التناقضات الإقليمية، بين السعودية وايران تارة وبين السعودية وقطر تارة أخري من أجل التغلب على أزماتها الاقتصادية، أوصلها لمستنقع الارتزاق الإقليمي كما لم تتمكن من الحصول على الأموال المطلوبة من تلك الدول. وزاد من حدة الازمة تبني النظام للحلول الامنية المتعلقة بمعاقبة تجار السوق السوداء ومنع المواطنين من سحب أموالهم من المصارف ومطاردة المصدرين والموردين إلى زيادة الازمة وفقدان الثقة في البنوك التي يقف معظمها حاليا على حافة الإفلاس والانهيار. ووصل الحنق الشعبي قمته مع ازدياد صفوف الوقود والغاز وانقطاع التيار الكهربائي وامداد المياه وغلاء الاسعار، الامر الذي تتحسب له الحكومة حاليا بالمزيد من الحلول الامنية نشر قوات اضافية حول محطات التزود بالوقود لاحتواء أي احتجاجات شعبية.

ويقول الكاتب الأستاذ محجوب محمد صالح ان النظام يحاول الهروب من أزماته عن طريق إيهام المواطنين بأمور جانبية لن تسهم في حل أزماتهم مثل التغيير الوزاري الأخير. ويمضي صالح للتأكيد بأن الحلول تكمن في تغيير السياسات وليس تغيير الأفراد، لا سيما بعد فشل هذا الأسلوب الذي ظلت تتبعه الانقاذ منذ مجيئها إلى السلطة قبل حوالي الثلاثة عقود.

تغيير سياسي شامل هو الحل

وفي ذات السياق يرى الطيب زين العابدين أن الحل هو ذهاب النظام، حيث يقول “لن يكن هناك حل غير ذهاب النظام  ليفسح المجال لغيره دون التمسك بالتجديد لدورة قادمة لأنه استنفذ كافة وسائله وليس له جديد“. ومضى في ذات الاتجاه خالد سلك قائلاً “مدخل حل الأزمة في السياسة قبل الإقتصاد، فبغير تغيير سياسي حقيقي يغير طبيعة النظام الحاكم الأحادية لن تجدي معالجات الإقتصاد الموضعية“، ويضيف “بغير إقامة نظام جديد يعيد هيكلة الاقتصاد السوداني ويوجهه نحو التنمية العادلة والانحياز للمنتجين في الريف ويفكه من ربقة التبعية لن نأمل في نتائج كبيرة تحسن حياة الناس إلى حد الإيفاء بمتطلبات الحياة الكريمة“. ويوضح قائلا “في الوقت الراهن فإن المعالجات الموضعية الممكنة تتمثل في خفض الإنفاق الحكومي الأمني بوقف الحرب وتقليص صرف الأجهزة الأمنية وبتوجيه ما ينتج عن ذاك التقليص إلى دعم التنمية والإنتاج الزراعي والصناعي وإلى تقليص الواردات غير الضرورية وإبدالها بالمنتج المحلي الذي يحتاج إلى رفع العوائق عنه كما أن السياسات المالية والنقدية تحتاج إلى مراجعات كبيرة توقف العشوائية التي تضربها الآن وتساهم في زيادة الأعباء الاقتصادية على المواطنين والمواطنات” .