تقرير: عاين 7 سبتمبر 2019م
بعد زهاء أسبوع من إغلاق مستشفى الجنينة التعليمي الحكومي، أُعِيدَ فتحه بعد موافقة والي ولاية غرب دارفور على تلبية مطالب موظفي الحقل الطبي بعد إضرابهم بسبب تدهور الأوضاع. يعكس الانتصار النادرللطاقم الطبي في الجنينه التحدِّي الاكبر الذي يجابه تقريباً كل المرافق الصحية والطبية في السودان- ألا وهو وجود مؤسسات طبية تابعة للدولة تديرها فلول الحزب الحاكم السابق الذين ليس لديهم الحد الأدنى من الاهتمام بصيانتها وتأهيلها في ظل اختلال كامل للنظام الصحي في البلاد واهماله من قبل الدولة وتجاهل دعمه طوال ثلاثين عاما.
وتعد تجربة أطباء الجنينه إحدى مئات الجولات التي يخوضها الأطباء في كافة أنحاء السودان ومنذ سنوات عديدة من أجل تحسين ظروف مهنتهم والأوضاع الصحية في البلاد بشكل عام.
فصل جماعي
قال الأطباء الذين شاركوا في الإضراب لشبكة “عاين:”إنَّ إضراب الأطباء والموظفين الطبيين الآخرين عن العمل الذي أدَّى إلى إغلاق المستشفى الحكومي في 5 أغسطس الفائت جاء كرد فعل على تعيين مديرٍ عامٍ جديدٍ من قبل وزارة الصحة الولائية الشهر الماضي وانتقاداً للخدمات السيئة التي تقدمها الحكومة للمؤسسة الصحية؛ ففي 11 يوليو اِحتجَّ الطاقم الطبي في المستشفى الحكومي على تعيين مديرٍ عامٍ جديدٍ من طرف وزارة الصحة الولائية، وهو عبد السلام مصطفى صالح، الذي يعتبره الكثيرون رمزاً من رموز النظام السابق لكن لم تستجب الحكومة لاعتراضات الاطباء.
ووفقاً للأطباء فإنَّ نفس أعضاء الحزب الحاكم السابق الذي تظاهر ضده الشعب منذ ديسمبر مِمَّا أفضى بالإطاحة بالرئيس السابق عمر البشير في وقت سابق من هذا العام، ما زالوال يسيطرون على مؤسسات الدولة ومفاصلها في إقليم دارفور تحت إشراف المجلس العسكري الانتقالي.
وأفادنا الدكتور بحر زكريا أنه بعد أقل من أسبوعين من تعيين المدير العالم الجديد، قام بفصل 14 طبيباً شاركوا في الاحتجاجات إلى جانب 10 أخصائيي تخدير، وأضاف: “هذا المدير العام (السابق) للمستشفى، بالإضافة إلى معظم الذين يديرون شؤون الدولة، يتبعون للنظام السابق، بما في ذلك لجنة أمن الولاية التي عَيَّنها المجلس العسكري الانتقالي.
فراغ
ويقول الطبيب إبراهيم آدم ان “المستشفى يتلقى ويدعم المرضى حتى من خارج القطر إذ يأتي إليه مرضى من دولة تشاد المجاورة. وتمثَّلتْ إحدى أعظم التحديات خلال مدة إغلاق أبواب المستشفى التي قاربت الأسبوع في التعامل مع حالات الأمومة والولادة. مضيفا “من المؤسف حقاً أن تكون كافة مستشفيات التوليد وأمراض النساء تقريباً في الولاية مغلقة”؛ وبحسب الدكتور آدم أنه لا يُوجَدُ إلا مستشفى خاص واحد فقط، وهو مستشفى السلطان، يستضيف غرفة للولادة في الولاية بأكملها إلى جانب مستشفى الجنينة، لكنه يفتقر إلى القدرة والسعة على استيعاب جميع حالات الولادة.
وقال محمد سليمان -أحد سكان الجنينة-:”إنَّ معظم المواطنين يعتمدون على المستشفى الحكومي لا سِيَّما في أقسام أمراض النساء والتوليد والأطفال [بسبب أنَّ] المرضى لا يستطيعون تحمُّل تكلفة الولادة العالية في المستشفيات الخاصة”، وقال د. زكريا إنَّ حوالي 90٪ من مواطني غرب دارفور لا يستطيعون تحمل نفقات المؤسسات الطبية العامة. وقالت د. سارة عبد الجليل -رئيس اتحاد الأطباء السودانيين في المملكة المتحدة- إنَّ “الناس هنا لا يموتون بالرصاص فحسب؛ بل يموتون أيضاً بسبب نقص الرعاية الصحية؛ إذ لا يستطيعون دفع تكاليف الرعاية الصحية الخاصة أو حتى تحمل نفقات الأدوية.”.
وفي ظِلِّ خلو المستشفى الحكومي تقريباً من الموظفين أغلق الطاقم الطبي أبوابه في الخامس من أغسطس الجاري تاركاً خلفه أعداداً لا تُحصَى من المرضى الذين تقطَّعتْ بهم السبل. ويُعتَبَرُ مستشفى الجنينة التعليمي هو المرفق الوحيد في ولاية غرب دارفور الذي يُوجَدُ به جناح طوارئ يعمل على مدار 24 ساعة. وأضاف د. زكريا: “هذا يعني أنه بعد التاسعة مساءً لم يكن من الممكن تلقي أيِّ حالات مرضية في سائر أنحاء الولاية”،.
الاهمال
ويذكر الأطباء أسباب أخري بجانب سيطرة كوادر المؤتمر الوطني على المؤسسات الصحية، تتعلق بالإهمال وسوء الخدمات. ويشير الأطباء الذين تحدثت إليهم “عاين” إلى ان مستشفى الجنينة التعليمي كان يفتقر لكافة أنواع الخدمات والمعدات الطبية الأساسية حتى تاريخ اغلاق أبوابه أمام الجمهور في 5 أغسطس. ويذكر الاطباء ان سلسلة الاحتجاجات علي تردي الاوضاع بدأت منذ شهور عدة، ففي 26 مايو قَدَّمَ الطاقم الطبي بمستشفى الجنينة سلسلة من المطالب لوزارة الصحة بالولاية، بالتركيز على بعض وسائل الراحة الأساسية مثل إمدادات ثابتة وموثوقة للكهرباء والمياه الجارية والضمادات الجراحية والأسِرَّة للمرضى “.
وقال الطبيب زكريا: “إنه من المستحيل مواصلة العمل في ظروف العمل المتدهورة داخل المستشفى” فيما افاد الدكتور آدم أنَّ الخدمات السيئة في مستشفيات الجنينة أجبرت العديد من المرضى على طلب الخدمات الطبية في العاصمة على الرغم من أنه قلة قليلة من سكان دارفور هم من يستطيعون تحمُّل نفقات السفر، ناهيك عن التكاليف الطبية.ليس المرضى فقط هم من يغادرون الجنينة؛ يقول الدكتور ادم “مستشفى الجنينة -شأنه شأن المستشفيات السودانية الأخرى- تم تدميره بسبب سياسات مؤسسات الدولة، مِمَّا أدَّى إلى فرار الكوادر المؤهلة بحثاً عن خيارات وفرص أفضل في الخارج”.
رفع الدعم
ووفقاً للمجلة الطبية (تقرير لانسيت) “أن النظام الصحي المنهار في السودان ينبع من نقص التمويل (المزمن) إلى جانب الفساد الحكومي وبرنامج خصخصة العديد من مستشفيات السودان”. ووفقاً لنفس التقارير، فقد حَوَّلَ العديد من أعضاء حزب المؤتمر الوطني الحاكم السابق الأموال من المرافق الطبية العامة إلى مرافق خاصة أكثر ربحية. وفي حين وجَّه الحزب الحاكم السابق الدعم بعيداً عن المؤسسات الصحية الحكومية، ففي معظم الحالات نجده ببساطة لم يمولها على الإطلاق. أقل من ستة في المئة من ميزانية السودان للعام 2018 ذهبت إلى الصحة، في حين تلقى الجيش ما يقرب من عشرة أضعاف هذه النسبة. وقد أدَّى هذا التخصيص الضئيل لموارد الدولة للمستشفيات إلى التدفق المستمر للأطباء السودانيين للبحث عن فرص عمل أفضل في الخارج. ووفقاً لمعهد الصحة العامة الذي تديره الحكومة، “ما يقرب من ثلاثة أرباع الأطباء السودانيين يعملون خارج البلاد، وخاصة في الخليج”.
فك السيطرة
وترى الدكتورة سارة عبد الجليل ان سيطرة الحزب الحاكم على المؤسسات والسياسات الصحية في البلاد، لن يسمح بتطوير الأوضاع الصحية في البلاد، كما يعيق تحقيق طموحات الثورة في هذا المجال. “إذا كان كوادر الحزب الحاكم لا تزال تسيطر بشكل رئيسي على المؤسسات الصحية الحكومية، فإنَّ حالات التدهور قد تستمر للمنشآت الصحية مثل مستشفى الجنينة التعليمي”. وتشدد الدكتورة سارة عبد الجليل أنه: “في الوقت الحاضر لا يزال النظام البائد وأعضائه موجودين في السلطة؛ وعلى المعارضة أن تعتمد في التوظيف والتعيينات (في القطاع الصحي) على الخبرة والكفاءات من أجل قطع الطريق أمام سيطرة الحزب الحاكم.. وأضافت: “أنَّ الإحتجاجات على الوضع في مستشفى الجنينة الذي اُستُنزِفَتْ موارده وعلى تعيين الحكومة لرموز النظام السابق يمثل “انتصاراً صغيراً” للمجتمع المدني السوداني، ولكن ما زال أمامنا الكثير من العمل الشاق لتوحيد الممارسات الطبية وأساليب التعامل تجاه القطاع الصحي في السودان “.